غرفةٌ واحدة لا تكفي

11 يوليو 2024
رأفت أسعد/ فلسطين
+ الخط -
اظهر الملخص
- استقرينا في غرفة صغيرة في بيت أقارب زوجي بدير البلح، نعيش سبعة أشخاص في مساحة ضيقة، ونشعر بالامتنان لوجود سقف يحمينا مقارنة بالنازحين في الخيام.
- ازدادت صعوبة الحياة في الغرفة الواحدة مع تحديات توفير الطعام والملابس الشتوية، واضطررنا لشراء الملابس المستعملة والمعلبات بسبب ندرة البضائع وارتفاع الأسعار.
- العيش في غرفة واحدة مع عائلة كبيرة صعّب الحفاظ على الخصوصية والهدوء، مما زاد من التوتر والمشاحنات، وحاولنا التكيف والصبر رغم الصعوبات.

بعد أن نزحنا من مدينة غزّة باتجاه الجنوب منذ أشهر عدّة، صرنا ننامُ سبعةً في غرفة واحدة. كان ذلك بعد نزوحنا التاسع، هرباً من مكان إلى مكان، بحثاً عن الأمان المفقود، أو هرباً من قصف أكيد. بعد أن استقرّ بنا المطاف، في بيت أقارب زوجي، في مدينة دير البلح.

كنّا محظوظين كفاية لنتمكن من الحصول على غرفة كاملة (4×3.5 أمتار). بدا أطفالي ممتنين لوجودهم في غرفة، بخاصة بعد أن أقنعتهم بأننا نازحون VIP، لأننا محاطون بأربعة جدران ويسترنا سقفٌ من فوقنا، ولأنّنا نستطيع استخدام الحمام من أجل قضاء حوائجنا. شعرنا بالذنب تجاه الناس الذين يعيشون في الخيام، بالرغم من أننا حاولنا عمل خيمةٍ، في مرحلة سابقة، ولكننا لم نستطع دفع ثمنها الذي تجاوز ألفي شيكل. شكرنا الله كلّ ليلة، لأنّه سترنا من البرد والمطر والبشر. لم نكن نملك إلا حقائب ظهرٍ صغيرة جداً، تحوي ملابس قليلة جداً.

وفّر لنا أقارب زوجي بعض الأشياء القليلة والضرورية الأساسية لبدء حياتنا البدائية الجديدة؛ بضع فرشات، وأغطية، ومنصب للطبخ على الحطب، وغالون ماء، وطنجرة للطبخ، ومقلاة، وبراد للشاي.. بدت كلّ تلك الأشياء مثل كنزٍ ثمين، لأن  نازحةً مثلي، لا تملك إلّا القليل وبعض المال، لن تكون قادرة على شراء تلك التفاصيل؛ التفاصيل التي اختفت من السوق بسبب اكتظاظ دير البلح بالنازحين، ولأنّ العشرات، المئات، الآلاف من العائلات النازحة قبلي بدأت مثلي حياة بدائية من جديد، فاختفت تلك التفاصيل من السوق، وإن وجدت فإنها تباع بأضعاف سعرها.

بدا أطفالي ممتنين، بخاصة بعد أن أقنعتهم بأننا نازحون VIP، لأننا محاطون بأربعة جدران

بدأت أنا وأطفالي في هندسة الغرفة، زاوية للحقائب القليلة، زاوية لبعض المونة، زاوية للأغطية، زاوية لأدوات المطبخ. أما الفرشات فقد كنا نضعها في النهار، بحيث تكون مناسبةً للجلوس، وفي الليل نصفّها بجوار بعضها البعض لتكون مناسبة للنوم. ولأن الغرفة تحتوي على بابٍ زجاجي بعرْض نصف حائط، ونافذتين زجاجيتين كبيرتيْن، لم يكن من السهل أن نختار مكاناً مناسباً للنوم بعيداً عن الزجاج. فاستسلمنا للأمر، راجين من الله أن يسلمنا، وقد سلمنا إذ استيقظنا ذات مرّة على صوت تكسر الزجاج إثر قصف قريب ارتجفت له كلّ جدران المنزل وكانت قطع كبيرة منها، سقطت بجوار رأس ابني. استمرّ بنا الحال، نعيش في الغرفة الواحدة، لمدة زادت عن خمسة أشهر، زادت خلالها أمتعتنا. بعد وقت قليل من نزوحنا، زادت برودة الطقس، فالملابس التي هربنا بها كانت صيفية، بالكاد (غيارين) لكلّ واحدٍ منا، كان عليّ أن أتدبر الأمر. اضطررتُ لشراء بعض الملابس الشتوية، ونظراً لأنّ البضائع قليلة والأسعار مرتفعة، فقد اشتريت حاجتنا من (الملابس المستخدمة/البالة)، في ما بعد ارتفعت أسعار البالة، ولم نعد قادرين على الشراء منها، فاكتفينا بما حصلنا عليه.

كبرت زاوية الحقائب، واكتظت بما بها. استطعنا الحصول على بعض المونة (المعلبات)، وقد كانت طعامنا الرئيسي على مدار وقت طويل، لأنً الخضروات لم تتوفّر في السوق آنذاك، وما توفر منها كان باهظ الثمن. حرصتُ قدر الإمكان على الحفاظ على طبق السلطة (بندورة، بقدونس، خيار، جرجير)، في حياتنا اليومية، حتى أحمي أطفالي بالقدر الممكن من خطر المواد الحافظة الموجودة في المعلبات. كان طبق السلطة مكلفاً جداً، ولكنني فضلتُ تكلفته على اضطراري لدفع تكلفة علاجاتٍ (والتي كانت قد نفدت من السوق أيضاً) لوقاية أطفالي من خطر المواد الحافظة، ولأن المطبخ ليس متاحاً لي، كما أشاء، كان عليّ أن أضع المونة في الغرفة. كبرت زاوية المونة واكتظت بها. كنتُ أخشى أن يكسر أطفالي طبقاً أو كأساً من أدوات مستضيفينا، لذلك اضطررتُ لشراء بعض الأكواب، وبعض الأطباق، وما يكفي حاجة سُفرةٍ متواضعة. ومع الوقت، كبرت زاوية أدوات المطبخ أكثر، وصارت تنافسنا على المساحة القليلة المتبقية.

لم تكن أشيائي كثيرة، لكن الزوايا كانت ضيقة. كنّا ننام في صفوف متجاورين: آلاء، ابنتي الكبرى 20 عاماً، ديما 18 عاماً، لينا 17 عاماً، فايز 15 عاماً، هبة 9 أعوام ووالدهم وأنا. كنا ننام متجاورين على الفرشات القليلة، نتشارك الأغطية لتكفينا. وبالرغم من أن الفرشات أقل من عدد الأفراد، إلا أن الغرفة المكتظة بتفاصيل الحرب اكتظت بالفرش، وبأدوات المطبخ وبنا.

يبقى السؤال الحقيقي والأهمّ: لماذا علينا أن نهمس حين نكون نازحين في بيوت الآخرين؟

في هذا العالم الضيق الذي نعيش فيه، أو في غرفتنا هذه، لا خصوصية يمكن لطفلٍ مراهق، أو لشابة تحب التأمل أن تحصل عليها في غرفة مكتظة. إذا أراد أحدنا استبدال ملابسه، كان يطلب من الجميع الخروج من الغرفة أو الاستدارة. لم تكن الغرفة الواحدة كافية لتستر انتفاخ بطوننا بالريح بسبب المعلبات، التي صارت طعامنا الأساسي. لم تكن غرفة واحدة كافية لتستر حزننا وغضبنا وخوفنا، أو حتى ضحكنا الهستيري من وقت لآخر. خلال ما يزيد على خمسة أشهر، ازداد اكتظاظ الزوايا، واكتظت قلوبنا بالخوف والقلق والتوتر. أُتخمت الغرفة بنا. وأُتخمنا بها. لكنّنا مصابون بقلق الفقد، كما فقدنا خيارنا في البقاء. في بيتنا نخشى أن نفقد الغرفة والزوايا والفرشات، والأغطية، ومنصب الطبخ، وغالون الماء، والطنجرة، والمقلاة، وبراد الشاي... لأننا لو فقدناها، سنضطر للبدء من الصفر مجدداً. وربما نضطر للعيش في خيمة. ونفقد خاصية الـ VIP التي أقنعنا أنفسنا بها.

لكلّ نازح نصيبه من الفقد، الحسرة، الألم. عندما نزحت العائلات من بيوتها، ألقت كلّ منها نفسها في حضن الخيارات التي أتيحت لها. بعض العائلات وجدت أقارب لها، أو أصدقاء، أو أناساً لم تعرفهم مسبقاً، لتستقبلها في منازلها أو محالها التجارية، أو فوق الأسطح، أو في زوايا أراضيها الزراعية، أو في حواصل بناياتها. بعض العائلات استطاعت عمل خيمة في الشارع، أو على سفح تلة رملية، أو في ممرّ مدرسة، أو مركز ايواء. وبعضها هربت إلى المدارس والمستشفيات لتجد لها ركناً تأوي إليه. واضطر الكثير من الرجال للمبيت في الشوارع، لأنهم لم يتمكنوا من تأمين مكان يؤوي كلّ عائلاتهم، فأعطوا الأوليّة في الأماكن المتوفرة للنساء وللأطفال ولكبار السن.

انتشرت مراكز الإيواء في كلّ مكان، وفي رفح ودير البلح، على وجه الخصوص. اكتظت الأماكن (الأراضي، الشوارع، المدارس، المؤسسات، المستشفيات، المنازل) بالنازحين. نزحنا أنا وأطفالي لبيت أقارب والدهم في دير البلح. ولأننا نعيش في غرفة في بيت ناس آخرين، كنا حريصين جداً على أن نكون ضيوفاً خفيفين غير مزعجين. وُأصبتُ أنا بمتلازمة الهمس. بدأ فايز بتجاوز مرحلة الطفولة، والدخول في مرحلة الرجولة خلال أشهر الحرب، و قد أصبح صوته أجشَّ مرتفعاً، إذا حاول الهمس يصبح مزعجاً جداً، وإذا ارتفع يكون جهورياً جداً. كان الجميع يصرخ عليه بصوت متوتر بأن يصمت كلما تكلم. مما يزيد حاجته للكلام والدفاع والاحتجاج والتوتر.

أما آلاء فقد كانت الأشدّ توتراً، وكانت تطلب من الجميع الهدوء والصمت، كلما اشتدّ الجدل أو الخلاف حول أمر ما. إلا أنها كانت تطلب من الجميع الصمت بصوت مرتفع جداً. فأحتجّ أنا على ذلك قائلة بهمس: "ممكن إلي بده يسكت، حدن ما يحكي بصوت عالي"، لم تكن قدرة أبو فايز على التعامل مع الضغط كبيرة، لم يتمكن من كبح غضبه وقلقه من المسؤوليات في أغلب الأحيان .كلما بدأ في لوم أو توبيخ أحدنا لا يتوقف على مدار نصف ساعة على الأقل، وكأنه يقوم بتفريغ كل ما يؤلمه في العبارات التي يقولها، يبدأها بتوبيخ هامسٍ ثم يرتفع صوته تدريجياً، فيزيد من وجع صمتنا أو همسنا أو قدرتنا على الكبت والتحمل. ليهمس لي أطفالي سراً في ما بعد: "احنا بدنا نطيب من الحرب، وبدنا نطيب من بابا كمان".

أما ديما فهي تحرص على الهمس أغلب الوقت، ولكنها تنسى ذلك تماماً كلما قالت شيئاً مضحكاً، أو إن غضبت فتتكشف عن عبارات مجبولة بالكبت والغضب والعتاب، عبارات متتالية مثل رصاصات طائشة تخرج من رشاش خرج عن السيطرة، ثم تصمت وتخرج من الغرفة، لتعلن عن عدم استعدادها لسماع كلمة واحدة زائدة. لينا هادئة أغلب الوقت، ولكنها لم تتصالح قط مع هدوئها ، فهي تحاول التحلّي بالصبر والصمت ولكن بضغط فائق عن قدرتها، لذا فقد كانت تنفجر من وقت لآخر، تهدّد وتتوعّد وتبكي كثيراً. استطاعت هبة (الصغرى) أن تجد قريبة لها، في عمر قريب لعمرها، فانشغلت أكثر الوقت في اللعب خارج الغرفة لتتجنب لعنة الهمس، والصراخ في الداخل، ولكنها كانت تنفجر من وقت لآخر قائلة: "ليش لازم نهمس، احنا بنقول كلام عادي". وفي أوقات أخرى كانت تقول: "ماما أنا بأتحمل مش لأني مش حزينة، لكن لأني بديش أصعب الأمور عليكي". عندما يرتفع صوت والدها بتوبيخ أحد إخوتها، تركض هبة بقلبٍ مذعور لتضع يدها على فمي قائلة: "ماما لا تقولي ولا حرف، لا كلام مليح ولا كلام مش مليح". الهمس والصراخ متناقضان قاسيان مؤلمان، يحزّ كلّ منهما الروح فيقسمها نصفين أو يهشمها لقطع صغيرة.

بعد سبعة أشهر من البعد عن بيتنا، عندما يرتفع صوت أحدنا يصرخ به الجميع ليهمس. وأنا المصابة بلعنة الهمس، تكبر أصوات الهمس، والصراخ في رأسي، ويتردّد صداها في الخنادق التي حفرتها الطائرة الزنانة في جمجمتي، فأصاب بالدوار المتكرر. ثم أهمس لنفسي بعبارات متفائلة وأردّد: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها. فأحتمل كل ذلك. وأردّ نفسي لمنطقة الصبر والتحمّل والتفهّم. ويبقى السؤال الحقيقي والأهمّ: لماذا علينا أن نهمس حين نكون نازحين في بيوت الآخرين؟


* كاتبة من غزّة

المساهمون