لم تتربَّ كريستين مور، الأميركية ذات الأصول اللبنانية، مع الموسيقى أو الثقافة العربية في صغرها. فمغنية السوبرانو والأوبرا ولدت ونشأت في مدينة ساكرامينتو في ولاية كاليفورنيا. لكن حفلها الموسيقي، الذي أقيم في "مركز لينكون" في نيويورك، تحت عنوان "من الأندلس إلى الأميريكيتين: رحلة أغاني إسبانية"، جمع بين الموسيقى الكلاسيكية الغربية، وتحديداً غناء الأوبرا، وبين الموسيقى والشعر الأندلسي والعربي.
امتلأت القاعة بالحضور، ما اضطر بعضاً من الجمهور إلى للوقوف، واستمر الحفل قرابة ثلاث ساعات، كان فيها صوتها مؤثراً بحضوره القوي وبصمتها الغنائية كسوبرانو، ليصبح الغناء أكثر من مجرد أداء بل تفسير المغنية الخاص للموسيقى والأشعار.
غنّت مور موشّح "لما بدا يتثنّى"، بمرافقة الطبل والعود، وبدت هذه الأغنية المعروفة كما لو أنها ترتدي فستاناً جديداً، يبرز مفاتنها بالغناء الأوبرالي. كما غنّت "مرثية ابن عبد الله الثاني عشر" للحمراء والأندلس.
ثم استحضرت، بمرافقة البيانو، جزءاً من قصيدة رابعة العدوية "أحبّك حبّين"، و"يا أيها الغائب عن ناظري" لبهاء الدين زهير، و"يا أهل أندلس لله دركم" لابن خفاجة، وجميعها بترجمات إسبانية وإنجليزية من ألحان الإسباني أنتونيو غارسيا أبريل، والذي لحّنها كلها كتحية للثقافة والشعر العربيين. ولم يغب عن برنامجها بعض مقطوعات الفلامنكو، وكذلك ألحان للأرجنتيني ألبيرتو جيناستيرا.
بشغف تحدثت مور لـ"العربي الجديد"، عن البرنامج الموسيقي الذي وضعته بنفسها وعن كيفية اختيارها للمحطات الموسيقية المختلفة: "لقد بدا لي طبيعياً، أن أربط ثقافتي الموسيقية الكلاسيكية في الأوبرا مع الموسيقى أو الشعر العربي الكلاسيكي عن طريق الأندلس".
لكن هذا الربط لا يخلو أحياناً من الاستشراق في كثير من أعمال الأوبرا عن الشرق، وهو ما تعيه مور وتحاول الابتعاد عنه. تقول: "لو نظرنا إلى أوبرا "الخطف من السرايا" لموتسارت، فإننا سنكون أمام أوبرا استشراقية بكل معنى الكلمة. وعندما أختار مقاطع من الأوبرا والأعمال التي سأغنيها أحاول أن أبتعد قدر الإمكان عن الاستشراق والأعمال من هذا النوع".
وتؤكد مور أنّ هناك كثيراً من المؤلفين الموسيقيين، من أصول عربية، يعيشون اليوم في الولايات المتحدة، تعلّمتْ منهم وعملت مع بعضهم. وهم يجمعون في أعمالهم إرثاً ومعرفةً وثيقة بالموسيقى العربية الكلاسيكية والغربية، لتصبح معرفتهم مكملة لبعضها البعض في مؤلفاتهم الموسيقية، وتكون فيها المدارس المختلفة في حالة تنافس وليس صراعاً.
ولدت كريستين لأب أميريكي، وأم لبنانية من مواليد مصر في الزمن الذي كان فيه لـ"الشوام" بيت وتأثير في أم الدنيا. انتقلت عائلة والدتها من مصر في خمسينيات القرن المنصرم للعيش والعمل في كاليفورنيا.
أما هي، فكبرت دون أن تعرف الكثير عن العالم العربي، إلا من زيارات قليلة لأقارب لبنانيين إلى كاليفورنيا. درست الغناء والموسيقى الكلاسيكية في مانهاتن، لتصبح نيويورك بعدها موطنها. كما غنت في دور وعروض أوبرا عالمية في الولايات المتحدة وأوروبا، من ضمنها دار أوبرا لايبزغ.
بقيت أصولها العربية كظل يرافقها دون أن تنتبه له، إلى أن ضربت نيويورك أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001. وعن تلك الفترة تقول كريستين مور: "شعرت بغضب بسبب العنصرية التي مورست ضد العرب والمسلمين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمير ورود الفعل والحروب التي تلتها كحرب العراق. تذكرت والدتي التي كانت سمراء البشرة، وفكرت لو كانت موجودة فلربما كانت واحدة من الذين تم الاعتداء عليهم". وتضيف: "لقد بدأت في العام 2003 دراسة اللغة العربية في جمعية محلية في منطقة بروكلين في نيويورك، حيث أسكن، ثم تلتها دورات عديدة".
لكنها لم تتوقف عند دروس اللغة العربية، فبدأت تنشط مع جمعيات عربية ومسلمة محلية، تحاول المساعدة في تعلم ونشر الثقافات العربية. وتعرفت على عدة ملحنين وموسيقيين عرب وأخذت دورات في الموسيقى العربية في الولايات المتحدة. وفي العام 2007 ذهبت إلى غرناطة لأخذ بعض الدورات، لتعود إلى نيويورك وتبدأ رحلة في عوالم موسيقى الأندلس، في محاولات لفهم الموسيقى العربية الكلاسيكية بصورة أفضل.
لم تتوّقف كريستين مور منذ ذلك العام عن تنظيم حفلات موسيقية، بمساعدة موسيقيين آخرين، تجمع فن الأوبرا بالموسيقى الأندلسية أو الشعر العربي. تقف على المسرح وتحاول أن تربط، على طريقتها الخاصة، كما تقول، بين تلك العوالم بعيداً عن الاستشراق والاستشراق الذاتي، في بحث عن لغة مشتركة وطبيعية لما يعتبره كثيرون، في زمن الحروب و"صراع الحضارات"، وهماً ونقيضاً بين تلك الحضارات. ومن المؤسف ألا تكون كريستين مور قد تلقت دعوة من أي من المهرجانات العربية، من بيروت إلى الخليج، لتقدم قراءتها كمغنية سوبرانو لـ"زمان الوصل في الأندلس".