ما زلتَ حيث أنت

10 مايو 2018
عبد الناصر غارم/ السعودية
+ الخط -

هل يُتابع أشرف فيّاض الأخبار التي يمور بها البلد الذي يسلبه حريّته منذ أربع سنواتٍ ونيّف؟
كلّا، لا أتصوّر زنزانةَ الشاعر الفلسطيني باذخةً كذلك "المعتقَل" الأميري الذي سيقَت إليه مجموعةٌ من علية القوم ذات خريفٍ قبل أن يُطلَق سراحها في الشتاء الذي تلاه. يشغَل اعتقال الأمراء العالَم فيسهر الخلقُ جرّاه ويختصم، ولا يشغل اعتقال الشعراء سوى الشعراء.
لا أتصوّره يرفلُ في رفاهيةٍ تسمح له بمتابعة المستجدّات. ولكنّي أتصوّر أن الأخبار تصله بطريقة ما، طريقة أقلَّ بذخاً.

لعلّه، إذن، يعلمُ بأنه صار في وسع المرأة أن تقود السيّارة على مقربةٍ من سجنه الصغير، وتدخلَ الملاعب الرياضية التي تبعد عنه قليلاً أو كثيراً، وأنَّ صوت أمّ كلثوم صدح، أخيراً، في فضائيات البلد بعد طول غياب: "لا تقُل أين ليالينا وقد كانت عِذابا/ لا تسَلني عن أمانينا وقد كانت سرابا"، وأنَّ عادل إمام ويحيى الفخراني ويسرا وميرفت أمين وكثيرٌ غيرهم يستعدّون للظهور عليها بعد أيّام، وأنَّ الشاب خالد وتامر حسني غنّوا في حفلاتٍ "مختلطةٍ"، وإن مُنع التمايل فيها، وأنَّ بطولاتٍ في رياضة المصارعة الحرّة ولعبة البلوت أُقيمت قبل حين.

كان كلُّ ذلك مُحرّماً حين كان فيّاض طليقاً يكتب الشعر ويقرأه على الأصدقاء: "اتّخذ قرارك بسرعة/ فالجاذبية الأرضية/ لا تنتظر كثيراً"، ثمّ صار مُباحاً بفضل "التعليمات بالداخل". لا نقصد، هنا، ديوان الشاعر بالتأكيد.

لعلّه سمعَ الأمير الشاب وهو يعِد: "لن نُضيّع ثلاثين سنةً أُخرى من حياتنا مع الأفكار المدمّرة"، ويتوعّد: "سنُدمّرها اليوم وفوراً". لعلّه تساءل: هل ثمّة أفكارٌ أكثر تدميراً من اعتقال شاعر واتهامه بالكفر والإلحاد والترويج للتجديف، ثمّ الحكم عليه بالإعدام بسبب قصيدة؟ هل هناك ما هو أكثر تدميراً من أن يكون الحُكم "المُخفَّف" ثماني سنواتٍ تصحبُها ثمانمئة جلدة وإرغامٌ على "التوبة" والتنكّر للقصائد؟

ولنهَب أن كلّ ما حدث: اعتقال الشاعر وسَجنه وجلده، رحيل أبيه متأثّراً بجلطةٍ دماغية أصابته حين بلغه النبأ، اعتقال شقيقته ثمّ إطلاق سراحها... أن كلّ ذلك كان نتيجةَ أفكارٍ مدمّرةٍ لا يُراد لها، الآن، أن تُضيّع ثلاثين سنةً أُخرى من حياة البلد، فلِم يُسمَح لها بأن تسرق أربع سنواتٍ أُخرى من حياة الشاعر وحريّته؟

ولكنه الثابت والمتحوّل: "يتغيَّر" البلد، لكن الشاعر يبقى في قبوه المظلِم، لا يذكره أحد، ولا يطاوله قدرُ قلامةٍ من أثر ذلك كلّه. يُغيّر أصحاب "الأفكار المدمّرة" مقولاتهم عن المرأة والسيّارة والتلفزيون والغناء والرقص والألعاب والرياضة، ولعلّهم يتقدّمون لتوزيع أوراق البلوت على الطاولة... ووحدها القصائد تظلّ تُغضب الإله، وتظلّ مغضوباً عليها.

"تستلهم من الهواء ما يكفي لمولودَين جديدَين
إذا ما كان الصراخ متساوياً
مع العلم بأن جزيئات الهواء حولك
تنقل الصوت بشكل رديء.. وحنجرتك
تحتاج إلى ترميم".

دلالات
المساهمون