إسماعيل كاداريه.. صدمتان في عام 1988

16 يوليو 2024
إسماعيل كاداريه جالساً في منزله الذي تحوّل إلى متحف، تيرانا، 2019 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في صيف 1987، استقلتُ من عملي بجامعة بريشتينا وانتقلتُ إلى دمشق للمشاركة في "الموسوعة العربية الكبرى" بمعلومات عن البلقان.
- زرتُ ألبانيا في مايو 1988، حيث التقيتُ بشخصيات بارزة واكتشفتُ قيود الحياة تحت الحكم الشيوعي، مما دفعني لكتابة مقالة عن زيارتي.
- في ديسمبر 1988، التقيتُ بالروائي فاتمير جاتا في دمشق، وأعدتُ ترجمة أعمال إسماعيل كاداريه لتقديم صورة أكثر دقة للعالم العربي.

في صيف 1987 استقلتُ من عملي في "جامعة بريشتينا" بعد أعوام من تفاقُم الأوضاع في يوغسلافيا بعد رحيل الرئيس الأسبق جوزيف بروز تيتو في 1980، شملت تصاعُد العِداء بين الألبان والصرب وبين يوغسلافيا وألبانيا، وأردتُ أن أرتاح سنة دراسية في المشرق قبل أن أنتقل للعمل في الأردن خلال العام الجامعي 1989 - 1990. في دمشق التقيتُ أستاذي العالم شاكر الفحّام، رئيس "مجمع اللغة العربية" ورئيس هيئة "الموسوعة العربية الكبرى" التي تأسّست آنذاك، الذي طلَب منّي أن أُشارك فيها بما أراه مناسباً من منطقة البلقان.

كنتُ على تواصل مع الطبعة الألبانية لـ"موسوعة يوغسلافيا الجديدة" (التي توقّفت لاحقاً بسبب انهيار يوغسلافيا)، وكانت ألبانيا قد أصدرت لتوّها "المعجم الموسوعي الألباني"، ولذلك تواصلتُ مع الجهة العِلمية الناشرة ("أكاديمية العلوم والفنون")، للاطّلاع على هذه التجربة نظراً لأنّ المجلّد الأول من "الموسوعة العربية الكبرى" كان يتضمّن مادّتين كبيرتين ("ألبانيا" و"الألبانيون"). وسرعان ما تلقّيتُ دعوة لزيارة ألبانيا لمدّة أسبوعين لأجل الاطلاع على تجربة الأكاديمية في هذا المجال والتزوّد بما هو ضروري من مصادر لأجل ما أُريد تقديمه لـ"الموسوعة العربية الكبرى".

كانت هذه خلفيّة لصدمتين كبيرتين في ما يتعلّق بـ إسماعيل كاداريه.

كنتُ كغيري من الألبان في كوسوفو أُتابع ما يكتبه إسماعيل كاداريه ضمن انعطاف النظام الحاكم في ألبانيا من "الماركسية اللينينية الحقّة" إلى خلطة جديدة تجمع بين الماركسية اللينينية والقومية الألبانية منذ 1978، أي بعد انقطاع العلاقات السياسية مع الصين الماوية بسبب "انحرافها"، وإلى تسويق ألبانيا باعتبارها "الجنّة" أو "القلعة" الوحيدة للماركسية اللينينية التي أصبحت الآن بنكهة ألبانية. كانت هذه الصورة تدفع الكثير من الشباب الألبان في كوسوفو، تحت تأثير الدعاية القوية لـ"راديو تيرانا" الذي كان يبثّ برامجه القوية من مدينة كوكس المجاورة ليوغسلافيا، إلى المخاطرة وعبور الحدود إلى ألبانيا مع ما يتضمّن ذلك من قنص واعتقال وسجن.

تمتّع بعضوية "مجلس الشعب" حين كان كتّاب بلاده يُعتقلون 

وصلتُ إلى تيرانا في أيار/ مايو 1988 وسط مظاهر الترحيب التي تُغري المرء في أن يعود ثانية. فقد كان لديّ برنامج لقاءات (لكون الرئيس كان مريضاً)، تبدأ مع أمين عام "أكاديمية العلوم" لوان عمّاري، والمسؤول الأول في قسم الموسوعة التابع للأكاديمية الباحث جواد لوشي، ورئيس "اتحاد الكتّاب والفنّانين الألبانيّين"، الروائي دريترو أغولي (الذي كان رئيساً للاتحاد بين عامَي 1972 و1992)، وبرنامج مفتوح مع سيارة ومرافق.

كانت الإقامة في "فندق دايتي" المخصّص للضيوف الأجانب، الذي لم يكن مُتاحاً للألبان العاديّين بالدخول والتمتّع بما فيه. وبعد اليوم الأول الذي اقتصر على اللقاءات في الفندق ومحيطه ("أكاديمية العلوم" و"اتحاد الكتّاب")، شمل البرنامج زيارة إلى مدينة جيروكاسترا في جنوب ألبانيا، مدينة إسماعيل كاداريه، التي خلّدها في إحدى رواياته، وأنور خوجا، الذي تحوّل البيت الذي وُلد فيه إلى متحف. كانت هذه الزيارة فرصة للخروج من "قلعة دايتي" ومن العاصمة الألبانية للتعرُّف إلى ما هو مغاير.

كانت الحواجز الأمنيّة على الطُّرق تُدقِّق في شخصيات المُسافرين. هناك اكتشفتُ أنّ الألبان حتى ذلك الوقت لم تكُن لديهم بعد بطاقات هويّة، وأنّ الألباني عندما يُغادر قريته أو مدينته إلى قرية أو مدينة أُخرى عليه أن يحصل على ترخيص من السُّلطة الحزبية. أمّا جواز السفر فقد كان تعبيراً يسمع به الألبان فقط ولا يتمتّع به سوى كبار المسؤولين وعدد محدود من الكتّاب يُعدّون بأصابع اليدّ من بينهم إسماعيل كاداريه.

في اليوم الثالث كان هناك رجاء أن أزور أحد المصانع القريبة من العاصمة لألتقي عاملاً ألبانياً يدّعي أن أصوله تعود لأسرة كرامي اللبنانية ويُطالب بالتواصل معها، لأن التواصل مع الأجانب كان يرعب السلطات المحلّية. كانت زيارة المعمل ورؤية العامل البسيط الذي رأى "أجنبياً" لأول مرّة في حياته فرصة لرؤية بؤس لا يوصف في دولة تحكم شعبها باسم العمّال.

في ذلك اليوم تذكّرتُ إسماعيل كاداريه، الذي كان يسوّق لنا ألبانيا أُخرى غير موجودة على أرض الواقع، أو يصمت عمّا هو موجود وعمّا يحدث لزملائه الكُتّاب من قمعٍ جعَل من ألبانيا نموذجاً لـ"الغولاغ" الذي كُنّا نسمع عنه. في ذلك الوقت عرفتُ ما حلّ بالكاتبة محسنة كوكالاري (1917 - 1983)، ابنة مدينة جيروكاسترا وأول كاتبة في الأدب الألباني الحديث. فقد كانت أوّل ألبانية تُنهي دراسة الأدب في "جامعة روما"، وأوّل ألبانية تُصدر عدّة مجموعات قصصية خلال الفترة بين 1940  و1944، وأول ألبانية تُشارك عام 1943 في تأسيس حزب اشتراكي ديمقراطي. 

ولكنّ وصول الحزب الشيوعي للسُّلطة في نهاية 1944 واحتكاره للعمل السياسي، جعَل محسنة كوكالاري من أول ضحاياه، حيث حكم عليها في بداية 1946 بالسجن عشرين عاماً لكونها من "أعداء الشعب"، وبعد 19 عاماً من السجن نُفيت إلى بلدة رشن النائية لتعمل هناك في كَنْس الشوارع إلى أن أُصيبت بالسرطان ورحلت عام 1983 من دون أن تتلقّى العلاج اللّازم، في الوقت الذي كان فيه كاداريه عضو "مجلس الشعب" ونائب رئيس "الجبهة الديمقراطية" (الواجهة الشكلية للنظام الشمولي)، التي ترأّستها نجمية خوجا، زوجة الدكتاتور أنور خوجا. في ما بعد عرفتُ أن ما كان يهمّ كاداريه أن يبقى حيّاً وحرّاً فيما يكتب وينشر ويُسافر خارج ألبانيا، بينما لم يُعد الاعتبار إلى بنت مدينته محسنة كوكالاري إلّا بعد سقوط النظام الشمولي، حيث منحها الرئيس الألباني الجديد صالح بريشا وسام "شهيدة الديمقراطية" في 1993.

ترجمته عن الأصل الألباني تكشف مستوى لغته الحقيقي

في ذلك اليوم قرّرتُ أن أقطع زيارتي وأُغادر ألبانيا وأن أكتب عن هذه الزيارة على عكس ما كان يرغبه السفير الألباني في القاهرة، الذي مرّر لي رسالة بأن نشر مقالة مناسبة عن زيارتي يضمن أن أتلقّى دعوة لزيارة ألبانيا كلّ سنة، وأن أتمتّع هناك بقضاء أيام على البحر أيضاً. فقد قرّرتُ أن أكتب مقالة وأنا أعرف أنني لن أُدعى ثانية بوجود مثل هذا النظام، وهو ما تحقّق في 1993 بعد سقوط النظام الشيوعي، الذي سمح لي أن أتعرّف إلى ألبانيا أُخرى كانت مخفية وراء الكواليس. كانت صدمة كبيرة أُخرى.

في كانون الأول/ ديسمبر 1988، حين شهدت ألبانيا بعض الانفتاح في عهد الرئيس رامز عليا (1985 - 1992)، الذي خلَف أنور خوجا (1944 - 1985)، جاء إلى دمشق الكاتب الروائي الألباني فاتمير جاتا (1922 - 1989)، بدعوة من "اتحاد الكتّاب العرب". كان الروائي جاتا من جيل الروائيّين الأوائل في الأدب الألباني الحديث الذي مثّل الواقعية الاشتراكية حسب المسطرة الجدانوفية، حيث نشر أول رواية "الانقلاب" عام 1945 التي تسوّق رواية الحزب الشيوعي عمّا حدث خلال "حرب التحرير الشعبية" التي قادت الحزب للسلطة المُطلقة، وروايته الثانية "المستنقع" عام 1959 وغيرها من الأعمال التي تتناول بناء الاشتراكية في ألبانيا.

في أحد اللقاءات معه خارج اتحاد الكتّاب الذي جمعه ببعض الكتّاب الألبان (المترجم عبد اللطيف الأرناؤوط، والشاعر بركات لطيف، وأنا)، كان الروائي جاتا معنيّاً كثيراً بالتعرُّف إلى صدى ما نُشر لإسماعيل كاداريه في العربية، بعد نشر روايته "جنرال الجيش الميّت" (1981)، ومجموعته الشعرية "حصان طروادة يلقى حتفه" (1982)، ورواية "الحِصن" (1986)، التي ترجمها عبد اللطيف الأرناؤوط. وقد ذكرتُ له ما أعرف ولكن يبدو أنّ الروائي جاتا كان يتوقّع أكثر من ذلك بالاستناد إلى ما كان يُكتب عن كاداريه في ألبانيا.

وبعد انسحاب الروائي جاتا مع المترجم عبد اللطيف الأرناؤوط لإيصاله إلى الفندق، انتهز الشاعر بركات لطيف الفرصة لكي يُعيد طرح الموضوع من وجهة نظره الخاصة. فقد ذكر الشاعر لطيف بصراحة في غياب الضيف أنه قد قرأ الكثير عن كاداريه في أوروبا إلّا أنه لا يصدّق ما يكتبه كاداريه في العربية. وبعبارة أُخرى فقد قال الشاعر لطيف إن كاداريه يبدو له كالمنفلوطي في اللغة العربية، وأنه لا يستطيع أن يصدّق أن كاتباً عظيماً ككاداريه يكتب كالمنفلوطي. وقد استشهد في هذا السياق بالقصيدة المعروفة لكاداريه "حصان طروادة"، ثم تمنّى عليّ أن أقرأ القصيدة في الأصل وأن أُترجمها من جديد لكي يقطع الشك باليقين. وبعد أن وعدتُه عدتُ إلى قراءة القصيدة بالألبانية التي شكّلت لي صدمة أُخرى، لأنه تبيّن لي أن القصيدة تحتاج فعلاً إلى إعادة ترجمة وأنا أعرف ثمن ذلك. وكانت الصدمة أكبر حين قرأت ترجمة القصيدة الملحمية المعروفة لكاداريه "بم تفكر هذه الجبال؟"، ثم رواية "الحصن" التي كتبتُ عنها ورقة للمشاركة في ندوة دولية للترجمة بعنوان "الترجمة من الأصل ليست الأفضل".


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري
 

المساهمون