رحلة الغسّال.. دبلوماسي مغربي في بلاد الإنكليز

22 فبراير 2018
(لندن عام 1902، من أرشيف "هولتون")
+ الخط -

تكتسي الرحلة المعنونة بـ"الرحلة التتويجية إلى عاصمة البلاد الإنكليزية"، والتي قام بها الدبلوماسي المغربي الحسن بن محمد الغسال إلى لندن سنة 1902، أهمية خاصة، لأنها تكشف من جانب عن العلاقات الدبلوماسية للدولة المغربية في تلك الفترة من عالم القرن التاسع عشر.

من جهة أخرى تبيّن الموقع الحقيقي للمغرب، في ظل وجود قوى دولية كبرى، مثل فرنسا وإسبانيا وألمانيا وبريطانيا، والتي كانت لها ممثليات دبوماسية في المغرب، وسفراء، وكان محط تنافس هذه القوى لتجدير نفسها، وربما للاستيلاء لاحقا على استقلاله، وهذا ما وقع بالضبط مع فرنسا، بعد توقيع اتفاقية الحماية سنة 1912، ومع إسبانيا التي سيطرت على شمال البلاد والمناطق الجنوبية.

كل هذا كان يدخل ضمن حملة استعمارية شرسة، لم تستطع أن تقف في وجهها الأنظمة الموجودة في ذلك الوقت، وهي بطبيعة الحال، أنظمة سياسية وأسلوب إدارة عتيق، سهل الطريق أمام المحتل الأجنبي، وأفشل كل محاولات نسج تحالفات مع قوى بديلة أو إنجاح مشاريع تطوير، كان قد قادها في المغرب، على الأقل، السلطان الحسن الأول، لكن تأخر التحديث وارتباك الإدارة التقليدية وهيمنة أطر الدولة القديمة وغياب قراءة عميقة للمشهد السياسي الدولي، كلها عوامل أدت إلى تفكك وحدة البلاد، زيادة على الموت الذي داهم الحسن الأول، ولم يسعفه في بناء مشروعه، وسقوط القصر تحت هيمنة ووصاية الوزير القوي باحماد، والذي لم يفلح بدوره في الحفاظ على استقلالية القرار السياسي للبلاد.

في هذه الفترة المتقلّبة والحاسمة من حياة المغرب سيقوم الحسن بن محمد الغسال برحلته الشهيرة إلى بلاد الإنكليز. فالرجل لم يكن رقماً سهلاً في المعادلة المخزنية (الدولة) المغربية، فقد تميز بحضوره في أهم المحطات التاريخية الحاسمة التي مر منها مغرب نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

ووفق محقق الرحلة، الباحث الراحل عبد الرحيم مؤذن، "ففي سياق هذه الأوضاع، مارس الغسّال نشاطه السياسي أو الدبلوماسي، موفدا من قبل السلطة المخزنية أحيانا، أو مرافقا لسفرائها أحيانا أخرى".

ومن المحطات البارزة في مسار الغسال، على الصعيد الدبلوماسي، كما يحدد ذلك مؤذن، حضوره مؤتمر المندوبين بالدار البيضاء بغية إيجاد حل للمطالب الأوروبية المتصاعدة، وتمثيله السلطة المخزنية في احتفالات تنصيب إداورد السابع ملك إنكلترا سنة 1902، ومرافقته السفير المغربي الحاج عبدالرحمان بن عبدالصادق، إلى جبل طارق لملاقاة العاهل البريطاني الذي زار هذه المستعمرة البريطانية، والتي يطالب المغرب بالسيادة عليها.

وقد تقلد الكثير من المهام والمسؤوليات في الإدارة المغربية أيام الاستعمار الفرنسي. وبالتالي، هو من هذه الناحية صاحب مراس طويل، سواء في العمل السياسي أو الدبلوماسي، وهو من ناحية أخرى يعبر عن تمثّل الدولة المغربية، أو المخزن، على وجه التدقيق، لعلاقته مع الآخر، الأجنبي في مرحلة زوابع القرن 19.

ولعل الرحالة محمد الغسال استطاع أن يتجاوز مرحلة الاندهاش من الآخر وهو يكتب رحلته، لقد أتاح له تجواله الطويل في القارة الأوروبية الخروج من هذا النفق، على عكس الرحالة المغاربة الآخرين، الذين سقطوا في ثنائيات: الحلال والحرام، الشريعة والظلام، فقد تخلص هو من هذه الأحكام المسبقة.

يسجّل الباحث عبدالرحيم مؤذن ملاحظة جوهرية حين يقول في مقدمة تحقيق رحلة الغسال "تحرر (الغسال) من الأحكام المسبقة التي تحكمت في غيره من رحالة القرن 19. لا وجود لذلك التعارض الشهير بين (دار الكفر) و(دار الإسلام) بالرغم من الأجواء المتوترة، والمهينة على علاقة المغرب بغيره من الدول الأوروبية آنذاك. فـ(الغسال) يصف، دون أن يخفي إعجابه بهذا العالم، من موقع ممثل رسمي لدولة لها كيان وتاريخ".

وقد التقط الغسال الكثير من المظاهر الإيجابية في رحلته اللندنية، التي تميز الإمبراطورية البريطانية لناحية التنظيم الإداري والسياسي والأنظمة النيابية، وهو حال بلدان أوروبية أخرى، مثل فرنسا، وقد أثاره دون شك ذلك، فهو يقول عن التجربة الإنكليزية "مجمع نواب الأمة على مصالح الرعية يعني أن يحضر بها نائب عن كل إيالة أو عمالة وكيلا عنها في جميع مصالحها ودفع مضارها.. وكيفية المفاوضة عندهم في سائر القضايا أن يقوم خطيب من إحدى الفرقتين يخطب على رؤوسهم بورقة من يده متضمنة لما دار في المسألة ثم يقوم خطيب من الفرقة الأخرى..".

كانت رحلة الغسّال إلى بريطانيا عام 1902، عبر مرسى مدينة طنجة، وهي رحلة بحرية انطلقت من هذه المدينة الدولية، مرورا بجبل طارق الذي كان وما يزال تحت السيطرة البريطانية.

ورغم أن الرحلة تتخذ لها مخططًا واضحا، من الانطلاق إلى الوصول للندن، إلا أن كاتبها يتوخى الكثير من الحذر، ولم ينطلق في الوصف كما يجب، ولم يبتعد عن التحفظ لاعتبارت تتعلق بموقعه الدبلوماسي، وكون أنه بعد رجوعه ستتلقف أي كلمة تصدر عنه، جهات الدولة الرسمية التي تتسم بالمحافظة، ولا ترغب في التجديد إلا بمقدار محسوب جدا، يقول مؤذن "ظل العديد من الرحالة المغاربة، ومن بينهم الغسّال، خاضعين لمرجعيتهم التقليدية، ثقافيا، دون أن يمنع ذلك من وجود حالات التفاوت بين هذا الرحالة أو ذاك. ولكن في كل الأحوال، لم يتسم الرحالة المغربي بالجرأة في دعوته الحداثية.. بل ظل دائما مشدودا إلى مرجعيته التقليدية من جهة، وعيون النخبة المحافظة التي لا تنام من جهة ثانية".

ويتوقف مؤذن عند أهم مميزات رحلة الغسال، وهي الحياد في عرضه للأحداث دون إصدار حكم قيمة، لا أثر للهجاء أو النقد اللاذع لمظاهر المغاربة في المجتمع الأوروبي. ولا يخفي الغسال أيضا، الإعجاب الرصين بالمظاهر العجيبة والغريبة في هذا المجتمع مع إصرار على الفهم والتفسير.

كل هذا في إطار اتخاذ مسافة من الجانب الديني، والانطلاق لفهم عملي للحداثة ومنتجاتها. يتحدث الغسال، مثلا، عن السيارات التي غزت شوارع لندن، مما هو غير مألوف في المغرب، حيث ما تزال العربات التقليدية التي تجرها الخيول. وهو يستقبل طريقة تنظيم حركة المرور وترقيم السيارات بالكثير من الإعجاب، مقدما معلومة غاية في الأهمية، أنه في تلك السنة من 1902، كانت العربيات في لندن أكثر من 60 ألفا، بحسب ترقيم قرأه على إحداهن.

يقول: "وأما العربيات التي في هاته البلدة فحدث ولا حرج، ومن ضوابط استخدامها أنهم يجعلون على كل واحدة منها نمرة مركبة من واحد وهلم جرا. وقد رأيت مرسوما على واحدة منها نمرة تزيد عن الستين ألف عجلة واسم صاحبها، ونمرة عجلته مرسومة في قطعة من نحاس معلقةعلى صدره، ولذلك فوائد ونتائج.. وفي كل حومة من البلد موضوعة آلة عجيبة تجر بالخيل كالعجلة معدة عندهم لإطفاء النار بسرعة متى شب الحريق في محل".

دروس للاعتبار

بكل تأكيد، أثارت رحلة الدبلوماسي محمد الغسّال، الكثير من القضايا، ولا يتعلق الأمر هنا بإشكاليات: لماذا تقدموا هم وتأخرنا نحن؟ أو الأصالة والمعاصرة أو القبيلة والدولة ولا بالتباين بين الإدارة القديمة والجديدة والأسلوب العتيق في تدبير الشؤون، ولا الفروقات بين الرعايا والمواطنين، ولكن بالوقوف عند تجليات الآخر وما حققه، وما يمكن للعرب فعله باتباع أسهل السبل، ومواصلة الطريق من حيث انتهى هذا الأخير، لا العودة إلى الماضي لاستخراج العبر وتحصين الذات، فذلك قد يستمر طويلا، ويمكن أن لا يؤتي أي فائدة تذكر، كما هو حالنا اليوم، ضائعين بين خيارات كثيرة دون القدرة على امتلاك الإجابة الشافية ولا استلهام النموذج الصحيح للحاق بمن سبقونا، وهم يتجاوزونا اليوم بمئات السنوات.

أسئلة من هذا القبيل وأخرى خطرت في ذهن الغسّال وهو يتجول في لندن ويتعرف على مدنية "الملكية"، ويقارن بين ملكيتهم و"مخزننا" أو النظام العتيق للملكية في المغرب، الذي كان يريد البقاء في مكانه في القرن التاسع عشر، لا يميل عنه شعرة، رغم المحاولات التي بدلها السلطان الحسن الأول، لكن الظروف العامة والسياقات الإقليمية وقوى "الشر" المحيطة، لم تمنحه الوقت كي يعبر ببلاده إلى منطقة النجاة، فجاء طوفان الاستعمار الذي لا يرحم.


من القصر إلى حديقة الحيوان

تبهر لندن الغسال في كل زاوية من زواياها وفي كل ناحية من نواحي تنظيمها، يكتب عن لحظات وجوده بها من أجل المشاركة في حفل تنصيب إدوارد السابع ملكاً على إنكترا (الصورة)، يكتب: "وفي الساعة العاشرة صبيحة يوم الأحد توجهنا لقصر السلطان المسمى طسر جيمس بلاس"، بقصد رؤية هيئة عساكر القصر المذكور، فإذا هي على غاية النظام العسكري مرونقة اللباس في زي مخصوص بها وتمييزا عن غيرها من سائر العسكر.

ومن زيهم أن قلاسينهم سود طوال نحو شبرين على هيئة قربة صغيرة متخذة من جلود الدب وتتكلف بثمن غال، ورئيس هذه العسة وكبريها ولد وزير الخارجية الحالي". ثم يضيف "وفي الساعة الثالثة من عشية يومنا هذا ذهبنا لبستان الوحوش المستجلبة من سائر الآفاق، فإذا هو جنان كبير متسع جدا محتو على أشجار ومياه ومحلات معدة للجلوس ولشرب القهوة، فرأينا فيه أنواع الحيوانات البرية والبحرية وأنواع الطيور على اختلاف ألوانها وخلقتها البديعة على ما لا يكيّف".


كلمتا السر: التنظيم والمواطنة

وهو يتعرف إلى أنماط الحياة في لندن، يدرك الغسال أن كلمة السر هي "التنظيم" و"النظام" كما الحال بالنسبة للعمل البرلماني والنيابي، وفق النموذج البريطاني العريق. فظاهرة ترقيم العربات شغل عقله، وفتح عينيه على جوهر الثقافة الأوروبية، يقول: "وأما العربيات التي في هاته البلدة فحدث ولا حرج ومن ضوابط استخدامها أنهم يجعلون على كل واحدة منها نمرة مركبة من واحد وهلم جرا.

وقد رأيت مرسوما على واحدة منها نمرة تزيد عن الستين ألف عجلة واسم صاحبها، ونمرة عجلته مرسومة في قطعة من نحاس معلقة على صدره، ولذلك فوائد ونتائج.. وفي كل حومة من البلد موضوعة آلة عجيبة تجر بالخيل كالعجلة معدة عندهم لإطفاء النار بسرعة متى شب الحريق في محل".

تتميز رحلة الغسال، كما يشير إلى ذلك، الراحل عبدالرحيم مؤذن، بجانبها التوثيقي، وبالأخص في الرحلة الإنكليزية، وهو يرمي إلى تبيان الاختلاف بين المغاربة والإنكليز، سواء على مستوى المظهر أو السلوك الاجتماعي أو الحياة السياسية أو الفارق التقني.

وهنا الهوة كبيرة جدا، ومرشحة للاتساع، وهذا ما حدث فعلا، حين أصبحنا أمام عالم أوروبي متقدم وعالم عربي متخلف، لا يزال يتجرع علقم التخلف والفارق الحضاري اليوم، ويدفع عن ذلك الثمن غاليا بسبب كل هذا الكم من الدول الفاشلة التي تعم الخريطة العربية.

أما عن تنظيم المدينة فيقول: "وفي هته البلدة عدة (لميدات) أي حدائق كبيرة متسعة جدا بل لكل حومة حديقة صغيرة خاصة بأهلها، ويخترق بهذه المدينة النهر الكبير المشهور "بالتمس"، تسافر فيه السفن الكبيرة وعليه عدة جسور بعضها من بناء وبعضها من الخشب ومنها قنطرة الحديد التي لا أعمدة لها، بل أحد طرفيها على ضفي النهر ووسطها معلق بقضبان وسلاسل ممتدة إلى الضفتين، يرفع وسطها بتلك السلاسل عند إرادة فتحها ثم تسد بأسرع حركة ومناولة، كما تفتح هي كذلك، وهي من أعجب ما يرى، وقد خرقوا تحت بعض جهات هذا النهر طريقا يمر فيها بابور البر تحت الماء وفوقه تمر المراكب البحرية، وفوق الوادي قنطرة تمر عليها العربيات والناس والدواب وفوق ذلك كله جسر يمر بابور البر أيضا، فصار مجموع طرق الاستخدام أربعة، كما علمت، ويشقها نهر صغير يسمى بنو وير، أعني الوادي الجديد على ثمانية وثمانين ميلا من المدينة والميل في اصطلاح الإنكليز عبارة عن سبعة عشرة ماية يرضة (1700) وماؤه يجتمع من عدة عيون ويصب في صهاريج ومنها يجري على بسيط الأرض في قواديس جديدة حتى يدخل من جهات البلاد فقط وباقي الجهات يجري لها من محل آخر وينقسم على بعض ديارها وبساتينها وحدائقها، ومدة الجلب لها إحدى عشر سنة وذلك من عام تسعة وستمائة وألف مسيحية إلى عام عشرين".

المساهمون