تزامناً مع الذكرى الخامسة والسبعين لرحيله، افتتحت مجلّة "Hohe Luft" الفلسفية الألمانية عددها الأول لهذه السنة بمقال يتناول حياة الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين (1892 - 1940) كلاجئ هارب من النازية. حمل المقال عنوان "في الجهة الأخرى"، وهي الجهة التي تقف فيها قوافل اللاجئين الهاربين من الحرب والقهر.
في 1940، سيصل بنيامين إلى القرية الإسبانية الحدودية بورتبو، هارباً من ألمانيا التي سيطر عليها "الحزب النازي" عام 1933، إلى فرنسا، وبالضبط إلى باريس التي احتفى بها في كتاباته، ليُسجَن فيها داخل مخيّم للاجئين عقب اندلاع الحرب، ثمّ فرّ بعد إطلاق سراحه باتجاه إسبانيا، على أمل الرحيل إلى الولايات المتّحدة الأميركية.
لكن السلطات الإسبانية سترفض السماح له بمغادرة البلاد. سيقضي ليلته الأخيرة في فندق رخيص في بورتبو، ويختار وضع حد لحياته، وقد أتعبه الهرب والخوف من إمكانية تسليمه إلى "الغيستابو".
يعتبر كاتب المقال توبياس هيرتر أن مصير بنيامين هو بمثابة "إنذار لنا جميعاً"، ويرى أن قصّته تخبرنا الشيء الكثير عن حياة اللاجئين وما الذي يضيّعه اللاجئ في اضطراره إلى الفرار من وطنه، مؤكّداً أن التذكير بقصّة بنيامين في السياق الحالي الذي تطبعه "موجات لجوء" لم يشهدها العالم منذ عقود، يكتسي أهمية كبيرة، بل إنه يرى في فكره الذي اهتم بالتفاصيل وهجر التجريد، أسلوباً للتعامل مع قضية اللاجئين. وإلى هذا التجريد الذي تبرع فيه وسائل الإعلام الغربية، تنتمي كل تلك الأحكام المسبقة والتصوّرات النهائية عن الغريب، التي ما برحت تحذّر منه ومن خطره على انسجام الجماعة.
بل إن الكاتب يحذّرنا من استعمال عبارة "موجات اللاجئين" التي تتردّد كثيراً في وسائل الإعلام والخطب السياسية، وصرنا نستعملها بوعي أو غير وعي، لأنها عبارة تنحو إلى التجريد وتصمت "عن المصائر الشخصية للاجئين وتواريخهم والأسباب التي دفعتهم إلى الهروب من أوطانهم".
وهكذا، كما يكتب: "يتحوّل اللاجئون إلى كتلة مغلقة، يمكن أن نسقط عليها ما نريد". يتابع قائلاً: "المتخوّفون سيرون في العدد الكبير من اللاجئين تهديداً، ولربما لصوصاً وإرهابيين. ورجال الاقتصاد سيفكّرون فيهم كقوّة عمل ستنقذ نظام المعاشات، وسيحتفي الكوسموبوليتيون لربما بجيرانهم الجدد.
لكن لا شيء من ذلك يعطيهم حقهم. إن مشتركاً واحداً يجمع بين اللاجئين: إنهم مجثوثون وجودياً، يجذّفون باتجاه العدم، كما كان شأن فالتر بنيامين في الماضي. وكل شيء آخر لن نعرفه إلا حين ننظر إلى وجوههم ونصغي إلى قصصهم".
يستعمل الكاتب مفهوم "الوجه" هنا قصدياً، ليس فقط لأنه يستعصي على التجريد، وعلى تحويله إلى موضوع، ولكن أيضاً بسبب "عريه وضعفه"، كما يصفه فيلسوف آخر، عاش الهجر والسجن واللجوء ـ إيمانويل ليفيناس ـ وبسبب تحقّقه الدائم خارج منطق الانتماء والجماعة، باعتباره التعبير الأول عن فردية الإنسان وفردية تاريخه.
اقرأ أيضاً: إسلاموفوبيا ولاجئون يطفون فوق الراين