حين تطلّ من شرفتها، ترى الفنانة المصرية عزة عزت، شبكة من الأزقة وتراكمات من الشوراع والبيوت تُظهر الحي الذي تقطنه كما لو أنه من عشوائيات القاهرة، رغم أنها تعيش في بقعة تنتمي إلى "المدينة الرسمية". ترسم المعمارية بالحبر عدة تصورات لهذا المشهد، ثم تطلق على مجموعة الرسومات هذه عنوان "المنظر من بلكونتي الغربية".
شيئاً فشيئاً تتكاثر المجموعات، ثيمات ومحاور مختلفة تشغل عزّت، لكنها في نهاية الأمر مجموعة من التساؤلات حول المدن التي نسكنها، وفي حالة عزت مدينتها الضخمة والمتشعبة والقديمة والفوضوية.
يبدو الأمر كما لو أن ثمة روايتين للقاهرة؛ تلك الرسمية بمعنى "المدينة المخططة المرضي عنها من الحكومة وتصل إليها تمديدات الكهرباء والماء من خلال المؤسسات" كما تقول عزت، في حديثها إلى "العربي الجديد"، وهناك "المدينة غير الرسمية، أي العشوائيات التي لم تخطط من الحكومة بل أقامها الأفراد من دون رضا الدولة، التي إما أن تقبل بها كأمر واقع أو تحاول إزالتها"، تضيف الفنانة التي يتواصل معرضها المقام حالياً في "غاليري فلك" بالقاهرة حتى 15 تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.
يضم المعرض مجموعات متفرقة من الرسومات التي لا تتعلق بحيّ معين، والموضوع الأساسي هو بحث الفنانة عن مدينة خفية، تقع بين المدينة الرسمية وغير الرسمية، مبنية من انطباعات قاطنيها وذاكرتهم وكلامهم عنها.
ثمة مجموعة تحمل اسم "قصر سعيد حليم" (يُعرف بقصر شامبليون) في وسط البلد، والذي يعود تاريخ بنائه إلى عام 1859، ولكنه اليوم وبعد سنوات من الهجر والإهمال أصبح مثل بيت الأشباح في قلب المدينة، وكان قد تحوّل إلى مدرسة في عهد عبد الناصر، وأُعلن كمبنى أثري عام 2002 دون أن يجري ترميمه، إلى أن بيع إلى ثري خليجي، وفقاً لما تقول الفنانة لـ"العربي الجديد".
تقول عزت إنها رسمت القصر بعد أن تخيلت أنه محاط بأسلاك شائكة كأنه مكان عسكري، وفي إحدى الرسومات تتخيل أن العشوائيات ارتفعت أمامه، مجازاً عن القصور والمباني التاريخية التي تُهدم وترتفع في محلها أبراج هي أيضاً عشوائية، ماذا لو حدث ذلك فعلاً؟
المجموعة الثالثة من الرسومات التي يضمّها المعرض هي "تربية الدجاج"، وفيها تصوّر عزت أوجه الشبه بين تربية الدواجن وتجارتها وحركة سكان المدينة. توضّح: "تعتقد الدواجن أنها تتحرك بحرية في أقفاصها، في حين أنها تُساق ضمن خط معين يناسب السير والإنتاج، حالها كحال سكان المدينة".
أما المجموعة الرابعة، فهي رسومات "رحلة إلى البندقية"، التي أنجزتها إثر مشاركتها في "بينالي البندقية للعمارة"، ورغم أنها تصوّر بيوتاً من المدينة الإيطالية، لكنها تفعل ذلك بروح القاهرة. توضح: "رسمتها بروح العابر وليس الساكن"، فجاءت كما لو كانت مدينة ثالثة تتكون من طبقات من البندقية والقاهرة.
ورغم أن الأعمال تظهر كما لو كانت تركيبات عمرانية وتنسيقاً حضرياً، وهناك من قد يرى فيها رسومات زخرفية، لكن الفنانة من العنوان ترفض هذا التصور وتقول لنا "This is NOT a landscape"، وتحاول أن توجه المتلقي إلى مكان آخر، محتجة على فكرة أنها معمارية تعمل في الفن، فهي لا ترى نفسها كذلك، فكرة تصر عليها بقوة أثناء اللقاء، إذ تقول: "لا أحب أن يعرّفني أحد كمعمارية في الفن، لأن هذا ليس ما أقوم به، ليس كل ما فيه خطوط كثيرة وزوايا يمكن اعتباره معمارياً، فعملي يراه المعماري بعيداً عن الرسم الهندسي ويراه الفنان قريباً منه، بينما أعتبر نفسي فنانة أولاً ومهتمة في شغلي بالعمارة والعمران". رغم ذلك تبدو محاولة الفنانة التحرر من تصوراتنا عنها بأنها معمارية وقد أتت بنتيجة عكسية. إنها تماثل في ذلك من ينظر إلى صور بلكونتها في الحي العادي فيصر أنها تسكن العشوائيات بسبب تركيبة المنظر الذي تطل عليه.
نسأل عزت عن مصادرها؛ فتشير إلى أن أولها تجوالها الشخصي في المدينة والذي يزوّدها بانطباعات قد لا تكون حقيقية، لكن مشروعها أساسه الحركة بين الواقعي والمتخيل، أما كلام الناس وحكاياتهم عن نفس الحي الذي تقطنه أو ذلك الذي تزوره فغالباً ما تكون مختلفة عن تصوراتها بل وقد تناقضها أحياناً، والمزج بين تصورات الاثنين تبني مدينتها المتخيلة، فيتغير كل شيء في الرسومات، قد يتغيّر المكان من مُقبض إلى مريح أو العكس، ثم هل المدينة كما يعيشها الأطفال هي نفسها كما يعرفها الراشدون؟ تستشهد عزت بتصور الروائي عبد الرحمن منيف عن المدن بوصفها طبقات؛ فهي عميقة جداً ومركبة، قد يراها السائح من السطح فقط، بينما ابن المدينة يراها من أسفل من أضيق أزقتها، وهكذا هي مدينة عزت طبقات من عالمها وعوالم الآخرين.