"جمالية المقاومة": قراءة من البوسنة

12 نوفمبر 2019
(محمود درويش في غرافيتي لـ إرنست بينيون إرنست)
+ الخط -

للبوسنة مكانة أساسية بالنسبة للدراسات الشرقية، سواء في يوغسلافيا التيتوية أو في الدول التي انبثقت عن يوغسلافيا بين 1991 و1999. ففي 1950، تأسّس "قسم الاستشراق" في جامعة سراييفو، وتأسّس في السنة ذاتها "المعهد الشرقي" الذي بقي المعهد البحثي الوحيد في يوغسلافيا حتى انهيارها. وخلال هذه العقود احتلّ الاهتمام بالأدب العربي وترجمته مكانة مميزة عبر ثلاثة أجيال على الأقل (سليمان غروزدونيتش وأسعد دوراكوفيتش وميرزا سرايكيتش)، الذي أوجد تراكماً معرفياً سواء في دراسة أو ترجمة الأدب العربي.

اهتم أسعد دوراكوفيتش (1948)، الذي فاز مؤخراً بـ"جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي"، بشعرية أو جمالية الأدب العربي التي كان يفضّل أن تكون ترجمتها إلى العربية "نظرية الإبداع"، وخصّص لذلك رسالته للدكتوراه التي ترجمت للعربية بعنوان "نظرية الإبداع المهجرية- دراسة في أدب المهجر" (1987)، كما اهتم لاحقاً بدراسة وترجمة أعمال محمود درويش من هذه الزاوية. فقد نشر في 1984 مختارات شعرية من أعماله بعنوان "قصائد مقاومة" مع مقدمة تشمل نواة لمقاربة جمالية لهذه القصائد، وهو ما توسّع فيه لاحقاً في دراسة بعنوان "شعر المقاومة الفلسطيني" نُشرت في كتاب له صدر في سراييفو عام 2005.

على هذا الأرضية برز ميرزا سارايكيتش (1980) الذي كان من أبرز تلاميذ دوراكوفيتش، حيث تابع دراسة وترجمة أعمال محمود درويش. ففي 2008 نشر في سراييفو مختارات من نصوص الشاعر الفلسطيني بعنوان "أبد الصبّار" خصوصاً من أعماله الأخيرة التي أوصلته إلى العالمية بعد المختارات التي ترجمها دوراكوفيتش. ومن ناحية أخرى فقد اختار أيضاً لرسالة الدكتوراه التي أشرف عليها دوراكوفيتش المجال نفسه (شعرية أو جمالية الأدب العربي) وطبّقه على جانب محدّد من شعر صاحب "عاشق من فلسطين" ألا وهو شعر المقاومة ليصبح عنوان الرسالة التي صدرت أخيراً في كتاب: "جمالية المقاومة في أعمال محمود درويش" ("المعهد الشرقي"، سراييفو 2019).

في مقدمة الكتاب يقول المؤلف إن موضوعه يدور حول "تحديد مفهوم شعر المقاومة وسياقه الاجتماعي التاريخي ومكانته في الأدب العربي" و"تقديم نظرة معمّقة في أهم الخصائص والمبادئ الجمالية لشعر لمقاومة في أعمال محمود درويش" ، معتبراً أن "هذا لا يمكن دون مدخل مناسب لقضية فلسطين التي تتخلل الثقافة العربية والأدب العربي بشكل خاص" . وفي هذا السياق يوضّح المؤلف أن "الفرضية الأساسية التي يقوم عليها الكتاب هي أن شعر المقاومة في أعمال محمود درويش يمثّل ظاهرة جمالية خاصة في الشعر العربي المعاصر".

ولأجل ذلك يعتمد الكتاب منهجياً على تناول المسائل النظرية التي تتعلق بشعر المقاومة بشكل عام والأفكار الجديدة التي تُطرح في الدراسات الأدبية والنقدية الحديثة، وخصوصية شعر المقاومة عند الشعراء الفلسطينيين بالمقارنة مع غيره وصولاً إلى محمود درويش، ذلك أن واقع الاحتلال الإسرائيلي الجديد، سواء في 1948 أو في 1967 أفرز شعراً مقاوماً مختلفاً يسعى إلى إثبات الوجود الفلسطيني نفسه، بعد أن تحوّل الفلسطينيون إلى "غائبين" بفعل "قوانين" الاحتلال.

وقد سمحت معرفة المؤلف بعدد من اللغات أن تكون مصادره ومراجعه متنوّعة تضمّ أهمّ ما كُتب عن شعر المقاومة في العربية وفي اللغات الأوروبية، بما في ذلك الجوانب النظرية التي تطرح مسائل متنوعة في مدى خصوصية وجمالية هذا الشعر وتفاعله مع سياقات محلية وإقليمية وعالمية في القرن العشرين، وصولاً إلى تجربة محمود درويش في هذا المجال التي وصلت إلى ذروة جديدة في الشعر الفلسطيني/ العربي/ العالمي.

في الفصل الأول "السياق التاريخي لشعر المقاومة الفلسطيني" لدينا مدخل تاريخي لبروز المشروع الصهيوني الذي تبلور في مؤتمر بازل 1897 مع برنامج استيطاني واضح المعالم في فلسطين وصل إلى تبني منظمة الأمم المتحدة لقرار التقسيم في 1947 ثم نكبة 1948 التي حوّلت الفلسطينيين إلى أقلية منتزعة الحقوق ومهددة الوجود بوسائل قانونية وإدارية وسياسية، وهو "ما انعكس أخيراً في بروز شعر المقاومة الفلسطيني".

في الفصل الثاني؛ "شعر المقاومة: جذوره وتطوره ومكانته في الأدب العربي الحديث" ينطلق المؤلف من جملة لمحمود درويش يؤكد فيها أن الشعر الفلسطيني "جزء لا يتجزأ من الشعر العربي المعاصر وأحد مساراته الرئيسية" ليعود متتبعاً تطور الشعر الفلسطيني خلال مراحله الخمس منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر ثم السنوات الأخيرة للحكم العثماني التي أعقبت إعلان الدستور (1908-1918) وبعدها سنوات "الانتداب البريطاني" وصولاً إلى نكبة 1948، التي أبرزت دور الشعر في التعبير عن مقاومة الواقع الجديد وصولاً إلى ستينيات القرن الماضي التي برز فيها مصطلح "شعر المقاومة" الذي أطلقه آنذاك الكاتب غسان كنفاني. وفي هذا الفصل يتوقف المؤلف عند "تأثير شعر المقاومة في الواقع" و"التناول الجمالي لشعر المقاومة في علم الأدب".

أما في الفصل الثالث الذي حمل عنوان "شعر المقاومة كخطاب ملتزم" فينطلق المؤلف من مقولة الالتزام التي شاعت في النصف الثاني للقرن العشرين ويتوقف عند "الموقف من الجماعة" و"الشعر الملتزم كتعبير عن الصدق إزاء الواقع" و"الشعر كشهادة" و"عالمية الالتزام لشعر المقاومة" و"الشعر تحت الحصار: ما بين التهميش والتقديس" و"تأثير مبدأ الالتزام على تركيب وأسلوب شعر المقاومة".

وفي الفصل الرابع؛ "شعر المقاومة كخطاب ما بعد الكولونيالية" ينطلق المؤلف من شعر المقاومة الفلسطيني كنتاج لهيمنة الأيديولوجية الصهيونية الجديدة وسياسة السلطات الإسرائيلية في التقتيل والتغييب وتهجير الفلسطينيين، ولذلك فإن "إسرائيل" هي نتاج للإمبراطوريات الكولونيالية (بريطانيا في هذه الحالة) وهي نموذج لما بعد الكولونيالية بعد أن انتهت الحدود التقليدية للإمبراطوريات بعد الحرب العالمية الثانية وبقي تأثيرها قائماً لدى الشعوب التي حكمتها.

في الفصل الخامس "شعر المقاومة كذاكرة ثقافية" ينطلق المؤلف من نظرية الأدب المعاصرة التي تركز كثيراً على "دور الأدب كذاكرة ثقافية"، ويبدو هذا بشكل خاص في شعر المقاومة. وفي هذا السياق يتوقف المؤلف عند "الذاكرة التقليدية لشعر المقاومة" و"الذاكرة التناصية لشعر المقاومة" و"الذاكرة الشعرية كتركيب للملحمي والغنائي" وغيرها.

"جمالية المجال في شعر المقاومة" كان عنوان الفصل السادس وفيه يتناول المؤلف كما في الفصول السابقة شعر المقاومة في أعمال محمود درويش من خلال المقاربات المختلفة مثل "إعادة التركيب الشعري للواقع الجغرافي" و"المنفى: المجال الشعري الثابت" و"المنفى كمجال للواقع المرير" و"الجغرافيا التاريخية للمنفى كمجال عام للتقارب" و"المنفى كمجال عام للهوية" و"الأندلس كمجال لغياب اليوتوبيا الشعرية".

في كل الفصول الخمسة الأخيرة، التي ينتقل فيها المؤلف من التنظير إلى التحليل والتمثيل بما لدى محمود درويش من شعر مقاومة، لا بدّ من الإشارة إلى أن ساراكيتش قد استفاد خلال سنوات ما قبل الدكتوراه من العمل في ترجمة شعر محمود درويش وصولاً إلى المختارات المذكورة التي أصدرها عام 2008، ولذلك جاءت الاستشهادات الكثيرة من دواوين محمود درويش بوقع جيد في اللغة البوسنية.

مع هذا الاستعراض لفصول الكتاب وما فيه من مقاربة جديدة بُنيت على معرفة نظرية حديثة وإحاطة بأعمال محمود درويش الشعرية في اللغة العربية وما كُتب عنه، سواء في اللغة العربية أو في اللغات الأوروبية، تبدو الحاجة ضرورية لترجمة هذا الكتاب إلى العربية لفتح نافذة على إسهامات المشتغلين في الدراسات الشرقية في البلقان.

المساهمون