جلبير الأشقر: بدائل الخروج أو الغرق

19 ابريل 2017
(جلبير الأشقر في تونس، 2017)
+ الخط -

تبِع التغيّرات السياسية والاجتماعية التي عرفتها البلاد العربية منذ 2011 اهتمام بحثي، سواء في رصد مساراتها وتوقّع مآلاتها أو في تفسير ما حدث ويحدث. بعد أكثر من ست سنوات عن نقطة بداية الأحداث في تونس، قد يكون ممكناً اليوم الحديث عن مدوّنة عربية في هذا الإطار.

ضمن هذه المدوّنة، تقع المؤلفات الأخيرة للباحث اللبناني جلبير الأشقر (1951)، وعلى رأسها "الشعب يريد.. بحث جذري في الانتفاضة العربية" (2013) و"انتكاسة الانتفاضة العربية.. أعراض مرضية" (2016)، وهما عملان يتابعان مسار "الربيع العربي"، وقد يبدو ظاهرياً أنهما انتقلا من نبرة متفائلة إلى أخرى متشائمة.

في حديث إلى "العربي الجديد"، يقول الأشقر "تعكس هذه المؤلفات المراحل التي كتبت فيها، كان كتاب "الشعب يريد" مكرّساً لدراسة جذور الانتفاضة العربية بأبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ودينامية المرحلة الأولى، مرحلة المد، وينتهي الكتاب بالقول "إما.. أو"، أي إنه لا يقدّم لا مقولة متفائلة ولا متشائمة، بل يضع الشروط لتخطّي المأزق الذي وصلت إليه المجتمعات العربية".

يضيف "هذه الشروط تتعلق بقدرة القوى التقدّمية على صوغ بديل ذي مصداقية وجاذبية، ولكن للأسف طغى الاحتمال السيئ ودخلنا بداية من 2013 في مرحلة ردة مع بقاء النظام السوري وصولاً إلى نقطة البداية تونس التي عاد فيها النظام القديم بلباس جديد، وإن تمّ ذلك بطريقة ديمقراطية". هذا الوضع المستحدث هو ما سمّاه الأشقر بـ"الانتكاسة"، وهو هنا يستعير مصطلحاً من المعجم الطبي.

للكتاب عنوان فرعي (هو عنوانه الرئيسي في الأصل الإنكليزي)؛ "أعراض مرضية"، هو الآخر مستعار من المعجم الطبي. من هذه الاستعارات الطبية، يمكن أيضاً أن نعود إلى أهم ما طرحه الأشقر في "الشعب يريد" لتفسير الانتفاضات، حيث "تبدو المنطقة العربية تركزاً هائلاً للنظم الميراثية والنيو ميراثية"، وهي أعراض أساسية تبعتها أعراض مستحدثة من بينها الحروب الأهلية وعودة القوى التقدّمية - التي كانت في الصدارة في بداية المد - إلى الانكفاء في موقع هامشي.

هذا الوضع، وفق الأشقر، جزء من "سيرورة طويلة الأمد"، ويلفت هنا إلى أن تصوّرات الحلول السريعة (دستور جديد..) كانت ساذجة، ليخلص بأن "المنطقة تمرّ من مفترق تاريخي، يُفضي إما إلى ظهور بدائل تقدّمية ونجاحها في الوصول للسلطة والخروج من المأزق أو الغرق في الأزمة العميقة".

يعود الباحث اللبناني هنا إلى المقارنة بين عمليه، فيعتبر أن "كتاب الانتكاسة مكمّل وليس بديلاً للشعب يريد". يلفتنا أن الأخير لم تنته بعد طاقته التفسيرية حيث إنه لا يزال يُقرأ ويُناقش ويصدر (صدرت طبعة فارسية منذ أشهر قليلة).

يتضمّن القول "إما.. أو" أنه لا يزال يوجد أمل قائم. فمن أين يأتي هذا الأمل؟ يقول الأشقر "طالما أن الطاقة التقدمية، بالأخص الشبابية، لم تُسحق فإن الأمل قائم، وهي لم تسحق في أي بلد". مقابل ذلك تعيش هذه الفئة حالة اختناق والتي هي بالنسبة للباحث اللبناني شكل آخر من أشكال الطاقة.

لا يمثّل الجهد البحثي، في العلوم الاجتماعية والسياسية، إلا جزءاً من طرق متابعة ما يحدث في البلاد العربية، والتي تتمظهر في أشكال أخرى من الأدب إلى الفنون التشكيلية. يرى الأشقر أن هذا الأمر إيجابي للغاية، وأنه إذا كانت صعوبات مؤرخ العصور السابقة تتعلّق بجمع المصادر فإن مؤرّخ اليوم يواجه كثرة المراجع في ظل وجود فيض من التدوين، والذي يرى بأنه مع الوقت ستحصل تنقيته، وأن التحليل سيفرض تلخيصاً للمعطيات وتمييزاً لما هو رئيسي وما هو عارض.

هل تصحب هذه المتابعة نقلة في الفكر النقدي العربي؟ يعتقد الأشقر أنه "قد حصلت بدايةٌ لم تكتمل، بمعنى أن الانفجار السياسي الكبير ترافق بثورة ثقافية يمكن تلمّسها من الغرافيتي إلى طبيعة الشعارات في الحشود". يتابع: "هناك عملية ابتكار جماعي على نطاق واسع وهناك أيديولوجيا لم تجر صياغتها فبقيت مشتتة. كانت بداية نقلة تتطلب التعميق وهذا يحتاج إلى ظهور قوى مبلورة تمثل تلك الطاقة".

يلاحظ أيضاً أن القوى التقدّمية العربية معظمها لم يتمكن من مواكبة النقلة، وبقي معظم أعضائها سجناء أفكار الماضي، فلم يحدث تناسب مع الثورة الشبابية، وهو أمر ليس خاصاً بالحالة العربية بل نجد آثاره في معظم بلاد العالم.

لهذا الوضع سياقاته، فالفكر النقدي في البلاد العربية - كما يلاحظ الأشقر - لم يكن في مأمن من التضييقات باعتبار أن معظم هذه البلدان كانت تحكمها أنظمة قمعية، مشيراً إلى أن ذلك يفسّر لماذا كان ثمة نصيب كبير من البحث العلمي العربي يقع في عواصم غربية، وغالباً من خلال لغات أجنبية، ضارباً أمثلة سمير أمين وأنور عبد الملك وإدوارد سعيد من بين عشراتٍ آخرين، وهو وضع يكرّسه عدم وجود سوق كتاب في البلاد العربية.

يحيلنا ذلك إلى الحديث عن خيارات الأشقر في التأليف باللغتين الفرنسية والإنكليزية، فكتاب "الشعب يريد" صدر أولاً باللغة الفرنسية، فيما كانت اللغة الأصلية لـ "انتكاسة الانتفاضات العربية" هي الإنكليزية.

يشير الباحث اللبناني إلى أنه "بالرغم من أنه يشعر باستمتاع أكبر عند الكتابة بالعربية، فإنه يفضّل الكتابة بلغة أوروبية أوّلاً لأن نقلها إلى العربية أسهل من الوضعية المعاكسة، وأيضاً لضرورات التسويق؛ فالكتاب الذي يصدر بالفرنسية والإنكليزية له فرص انتقال إلى لغات كثيرة وهو ما يفسّر وصول أعمالي إلى 15 لغة، ولكنني حريص على أن توازي منشوراتي باللغات الأجنبية صدور أعمالي بالعربية".

ترى، هل يجري التقاط هذا الجهد البحثي في معتركات السياسة والصراع المجتمعي؟ يقر الباحث اللبناني بـ"وجود تفاوت في القراءة، للأسف ثمة فقدان لعادة القراءة في عصر التغريدة والتعليقات السريعة، مع ذلك ثمة رغبة في فهم ما يجري". يضيف "أعتقد أن القراءة لا تكفي ولن تكفي إذا لم ترتبط بخلاصات عملية؛ أي أن تفضي إلى إجابات عن السؤال الكبير "ما العمل؟".

المساهمون