منح التقدم لبلدان الغرب خلال القرون الماضية، حججاً اقتصادية وأخلاقية ولاهوتية للهيمنة على البلدان المتخلفة، بموجب صيغة استعمارية تذرّعت بنشر الحضارة والتبشير بالدين الصحيح. في القرن الماضي تخلّصنا من الاستعمار ومهزلة ادعاءاته الحضارية. وغادر أراضينا بعدما أصبح وجوده مكلفاً، وغير مجزياً، بالنسبة إليه. ودعي يوم رحيله بيوم الاستقلال، وبات عيداً قومياً.
أصبح الاستعمار ومآسيه من التاريخ البغيض للشعوب المتحرّرة التي تخلّصت منه، والتفتت إلى بناء دولها، لكن لن يكون للسياسيين سوى دور ضئيل في هذه المهمة، فالجيش الذي بوشر بتأسيسه لحماية الوطن من الأعداء الطامعين فيه، سيلعب الدور الأكبر في الاستيلاء على الدولة الوليدة، ويفرض مفهوماً للتقدّم، كان بحرق المراحل، كأن النهضة تستلزم الاستعجال لا التمهل، ولن تترك العدالة الاجتماعية لمماحكات النواب في المجالس النيابية، ولا بديل عن إقامة النظام الاشتراكي؛ النعيم المقبل للإنسانية الضالة.
إذا كان الاستعمار قد استعمل العنف في احتلاله للدول، فقد ورثه العسكر الوطنيون، واكتسب العنف صيغة ثورية، يستخدم كضرورة لا بد منها، وهي فكرة انتزعوها من أحزابهم التي امتطوها للوصول إلى السلطة. فلم يعد مرفوضاً، طالما أصبح فضيلة، بعدما منح تبريراً سياسياً، استقي من العدالة الثورية، كعامل لا بديل عنه في إجراء المتغيرات الجذرية، فالعالم يتقدم على وقع السجون والمعتقلات والتعذيب والقضاء على الطبقات المستغِلّة، إنها ضريبة التقدم، فالعدالة الاجتماعية ولو كانت نقمة على القلّة، لكنها نعمة على الأكثرية، غير أنها بجهود العسكر، ستصبح الجحيم الذي سيرزح تحته الشعب.
صنع العسكر طبعتهم المحلية من الاستعمار، يرشدها إلى مآربهم منطق يستعلي على الجماهير ويحوّلها إلى قطعان تتظاهر، وتُسيّر إلى حتفها باحثة عن لقمة عيشها. اكتشفت الشعوب أن العدو ليس الآخر فقط، أنه متوطن لدينا أيضاً، حلّ محل الأجنبي وتقمص طرائقه وأساليبه، دونما حضارته ومنطقه... يذيقهم ما عجز عنه الآخر القادم من وراء البحر.
وعى الشعب ولو متأخراً أن الاحتلال لا يأتي من الغرب فقط، بل يمكن تصنيعه محلياً، فالشر ليس اختصاصاً غربياً، يمكن بكل بساطة استيلاده على أرضنا، والتسلط متوطن فينا، وجزء منا، يقبع في داخلنا ينتظر الفرصة ليقفز على الدولة لينهب ويقتل ويدمر من دون محاسبة. لم يعد المجرم يتكلّم لغة أجنبية، إنه يتكلم لغتنا نفسها.
وجدت هذه النظرية مجالها الأوسع وتطبيقاتها المتعددة في عديد من أنظمة الحكم، لا تعرف من التفلسف السياسي إلا هذه المقولة. لن تكون ثورياً جذرياً، إن لم تعلّق رؤوس الطبقة الارستقراطية على أسنّة الحراب، وترسل رجالات النظام السابق إلى المشانق وفصيل الإعدام. وتنهب البرجوازيين تحت شعار صراع الطبقات ودولة البروليتاريا. لم تكن هذه الأهوال إلا مقدمة لزجّ المعارضين المحتملين في السجون.
في هذه المنطقة من العالم، ليست نكباتنا إلا من صناعة أنظمتنا، أنظمة بلا دين ولا فلسفة ولا سياسة، اتخذت وسيلة التصالح مع أعدائها الغربيين، والإبادة لخصومها من الناس في الداخل، حيث يأتيها التهديد، فكان الحبل على الجرار، فقتلت القوميين واليساريين والشيوعيين وأشباههم من أصحاب الدعوات الاشتراكية، ومعهم الإسلاميين والمتأسلمين والمجاهدين المتطرفين والمعتدلين والإرهابيين، وأيضاً ذوي النوازع الخيرية. أحياناً كانت ترحمهم فتتركهم يتعفنون في السجون.
لم تمنع الحضارة من ارتكاب الأجنبي لجرائم شائنة ووحشية، بالتالي ما الذي سيمنع المجرم المحلّي حامل البندقية بيد وأدوات التعذيب باليد الأخرى، ألا يكون استعلائياً فظاً ومتوحشاً؟ ومثلما التسلّط هو التسلّط، فالمجرم هو المجرم.