إقامة في جبل الزيتون

06 أكتوبر 2019
القدس القديمة من "جبل الزيتون" (غيتي)
+ الخط -

لفت نظري صقيع الجو هنا في الليل. ما إن يبدأ المساء، حتى يتحوّل الطقس تدريجياً إلى طقس شتوي. وفي الساعة الثانية أو الثالثة فجراً، تحسّ وكأنّك في ذروة الأربعينيّة - مع أننا في عزّ الصيف. هواء بارد وجاف، عكس طقس غزة الحار، أو الدافئ على الأقلّ، والمشبع برطوبة البحر القريب. جاءني "نون" في أول يوم وظللنا نتحادث ونتسامر حتى انتبهت إلى جسمي وهو يرتجف! صقيع مع تيارات هواء قوية، جعلاني أظنّ أنني فعلاً في عزّ الشتاء.

لاحظ "نون" ذلك، فأتى في اليوم التالي بجاكيت صوف هدية منه. لقد أتينا، بملابس الصيف الخفيفة، ولم نحسب حساباً لاختلاف المناخ.

أتجوّل، بعد زوال الخوف نسبياً، في محيط المستشفى. أخرج إلى الشارع العمومي المحاذي، وحيداً أو مع مرافق آخر، ولا نبتعد كثيراً. فالمكان لا يشجّع على هذا: مكان أرستقراطي به سفارات أجنبية، مثل سفارة تركيا والاتحاد الأوروبي وبريطانيا، وسواها. مكان عمومي محايد، وأمثال هذا المكان لا تجذبني.

اليوم نزلنا، أنا وعليّ (قريب الشاعر خالد عبد الله)، وتبضّعنا من حانوت بعد نزلة الإمبسادور. ثم نزلنا درجاً وابتعنا من محل فاكهة، عنباً وخوخاً وبلحاً. فوجئت بجنون الأسعار: فكيلو الخوخ، مثلاً بـ 16 شيكلا، في حين اشتريته بعدها بأيام، من فلاّحة على بسطة بباب العامود، بخمسة شواكل فقط. وخوخها كان أكبر وأجود من الخوخ الأول.

أحدهم نصحني بعدم الشراء من المحلاّت. فالمحلاّت هنا تدفع ضرائب باهظة، وتخصمها من المشتري في النهاية. بينما أصحاب البسطات المتنقلّة لا يدفعون، ولذلك بضاعتهم رخيصة. ومع هذا، كان معظم ما اشتريته خلال إقامتي في القدس، من المحلاّت.


■ ■ ■


قرّر د. وائل نقلنا إلى مشفى المطلع [اسمه القديم مستشفى أوغستا فكتوريا]. شرح لنا تطوّرات الحالة، وقال لا بد من جلسات علاج بالإشعاع، لمحاصرة الورم الخبيث ومنعه من الانتشار. قال ربما تحتاجون إلى 45 جلسة إشعاع. ولما كان نظام المستشفى هناك عبارة عن 5 جلسات في الأسبوع، مع يومين راحة، فإنّ المدة الإجمالية لبقائكم لن تقلّ عن شهرين. قال: الأغلب أنكم ستعيّدون في القدس. تجهّم أخي واكتأبت أنا. فما كنا نتوقعه لرحلتنا هو أسبوع أو عشرة أيام على الأكثر، لكن للضرورة أحكام، كما يقولون.

لملمنا ملابسنا، وجهّزنا الشنط، ثم لففنا على زملائنا من مرضى ومرافقين، لنودّعهم. كانت فترة الأسبوع كافية لنسج علاقات إنسانية دافئة بيننا وبينهم. ثمة تآزر خفي، يربطنا جميعاً، كإخوة في المرض، فوق ذلك الشعور المتواطئ عليه بصمت، كوننا غرباء. زرناهم في أروقة المستشفى، وعلى الأسرّة، متمنين للجميع السلامة، مرضى من القدس ونابلس والخليل، معظمهم يحتاج إلى إزالة حصوات، غير مرضى غزة، وهم الأكثر عدداً بالطبع.

لحظات حاولنا عبورها بسرعة، كيلا نقع تحت تأثيرها العاطفي.

بحثت عن الرفيق إلياس لأودّعه، لكنني لم أجده. وخرجنا من باحة المستشفى للطريق العام، حيث ركبنا أحد الباصات الصغيرة الخضراء، متوجهين إلى باب العامود، بنية الصلاة في المسجد الأقصى. كانت تلك رغبة أخي بالأساس، بعد ما سمع من معظم مرضى غزة ومرافقيهم، قصصهم عن المغامرة مأمونة العواقب نسبياً، بالصلاة هناك. فرغم أننا ممنوعون قانونياً من الخروج من المستشفى، إلا أنهم، كلهم تقريباً، صلوا وعادوا بسلام. فالشرطة الإسرائيلية الموجودة على مداخل المسجد، تركّز على الشبان صغار السن، ولا تلقي بالاً لمن هم في أعمارنا. لقد طمأننا كل من عرفناهم من أهل القدس والضفة، وشجّعونا على اقتناص هذه الفرصة.

أخي بطبعه لا يميل للمغامرة، ولذا استغربت جرأته المفاجئة. المهم: نزلنا في محطة الباصات، وحكينا حكايتنا لتاجر مقدسي من البلدة القديمة، كان راكباً معنا من الشيخ جراح، فشجعنا، ومشينا معه، نازلين الأدراج، إلى أن وصلنا دكانه، وهو دكان لبيع التحف، فوضع شُنطنا أمانة عنده، وأرسل معنا أحد أولاده، ليدلنا ويوصلنا للمسجد. مشينا بين مقدسيين وسياح أجانب في غروبات، لفت نظري مجموعة منهم، وفتاة تحمل علم ألمانيا، وتتقدمهم. تجاوزناهم، وذهبنا باتجاه أحد مداخل الحرم - "باب الناظر"، لكن أخي رأى شرطة تقف هناك على حاجز، وكان الوقت ضحى، والسابلة قليلة، فخاف، وتراجع قبل وصولنا بدقائق.

أصرّ الفتى المقدسي على تبديل المدخل والذهاب بنا إلى باب القطّانين القريب، لكن أخي أصرّ على إلغاء الزيارة خوفاً وتحسباً من العواقب، التي لا تقلّ عن إيداعنا السجن، ومن ثم ترحيلنا إلى غزة، وعدم منحنا تصريح عبور بعد ذلك لمعاودة العلاج.

كانت المغامرة وخيمة حقاً، فعدنا أدراجنا وسط دهشة الفتى المقدسي من خوفنا المبالغ فيه!
شرحت له ظروفنا المعقدة كغزّيين، لكنه لم يقتنع. وعدنا إلى المحل وأخذنا شنطنا، التي أصرّ الفتى على حملها جميعاً، حتى محطة الباص في باب العامود. شكرت له شهامته ونخوته، وركبنا الباص متوجهين لمستشفى المُطَّلَعْ.

كانت زحمة المرور في أوجها، ما أتاح لي تأمل أسوار البلدة القديمة ومعالم المنطقة عن كثب. رأيت برجاً شاهق العلوّ وبعض مآذن وقباب وجرسيات لمساجد وكنائس تاريخية عريقة، لا أعرف أسماءها للأسف.

نزل بنا الباص، وبعد نصف ساعة وصلنا إلى بوابة المُطَّلَعْ.


■ ■ ■


مستشفى المُطَّلَعْ هو في الأصل قصر منيف، بناه الإمبراطور وليم الثاني إمبراطور ألمانيا (بعد أخذ الموافقة من حليفه السلطان عبد الحميد) ليكون القصر نُزلاً للحجاج الألمان، ومنتجعاً صيفياً لزوجته الإمبراطورة فكتوريا، المريضة بالسل. وقد تم الانتهاء من تشييد المبنى في عام 1910. وأُدخل له مولّد كهربائي، هو الأول من نوعه في فلسطين التاريخية في ذلك العهد.

المبنى قائم فوق جبل الطور، على مرتفع صخري، جاورته بعد ذلك التاريخ بـ 14 عاماً المباني الأولى للجامعة العبرية على قمة جبل المشارف. ملحق بالقصر كنيسة بناها الإمبراطور أيضاً، وثمة برج رائع مهيب، تراه من أي جهة في أرجاء المدينة. وقد قيل لي إنّ ولادة المملكة الأردنية الهاشمية، قد تمت هنا في إحدى غرفه، بين تشرتشل (وكان عهد ذاك وزيراً للمستعمرات) والأمير عبد الله الأول، بحضور لورانس العرب والجنرال أللنبي. وإنّ هذه الغرفة لا تزال موجودة على حالها حتى اليوم. كما قيل لي إنّ الطابق العلوي من القصر قُصف ودُمّر بالتمام في حرب حزيران، لكن أُعيد بناؤه وترميمه في أواسط الثمانينيات. وإلى ذلك، فأنت تستطيع، لو ارتقيت البرج المهيب، أن ترى البحر الميت وجبال مؤاب في المملكة الأردنية.

ورغم أني لم أفعل، إلا أنني وأخي، رأينا البحر الميت، في ما بعد، كشريط فاهي الزرقة، بين سلسلة من الجبال البعيدة، وذلك أثناء سيرنا في شارع رابعة العدوية، عائدين إلى فندق جبل الزيتون، في الجانب الجنوبي من الجبل ذي الاسمين (الطور، الزيتون).

يحتوي القصر أيضاً على مساحات خضراء مزروعة بأشجار السرو والزيتون والأرز والصنوبر المعمّرة - تُعتبر رئة للمكان، ويخيم عليها الهدوء السابل، والنسيم العليل. وتشكّل فسحة ضرورية للراحة، سواء للمرضى أو المرافقين، فضلاً عن الجانب الجمالي. كما يحتوي على مبان خدمية للموظفين كروضة أطفال وكافيتريات، وخلافه. وغالباً ما تزوره وفود ومجموعات سياحية غربية، للتمتّع برؤية القصر وزيارة الكنيسة.

جلست في هذه الباحة الغناء، وانتشيت بالهواء النقي الشهي، ممهوراً بنور الضحى اللامع. إنه حقاً منتجع من طراز رفيع. تمنيت لو أقضي بقية عمري فيه، أتأمل وأقرأ وأكتب، بعيداً عن إكراهات هذا العالم.

أتممنا بعض الإجراءات الروتينية، وقُرّرَ لنا الإقامة في "فندق جبل الزيتون"، ومراجعة المستشفى لإجراء بعض الفحوصات، والبدء في أخذ الجلسات الإشعاعية (تستمر الجلسة ما بين خمس دقائق إلى عشر لا أكثر). جلسنا مع المختصّ الاجتماعي، ثم ركبنا باصاً للفندق، وهناك في الغرفة رقم (111) أنزلنا الرحال.


■ ■ ■


افتُتح فندق "جبل الزيتون" في عام 1960، وكان في الأصل عبارة عن عدة بنايات ومحلات يربط بينها جسر إسمنتي، رأى أصحابها تحويلها إلى فندق، لكثرة السيّاح في المنطقة. يقول صاحبه إبراهيم خويص: "إن غالبية زبائن الفندق هم من الحجاج الذين يأتون إلى المناطق التي عاش فيها السيد المسيح عليه السلام. هناك العديد من الكنائس والمواقع المقدسة التي تحيي وقائع الإنجيل الإزائية حول الفندق".

وإلى ذلك، فالفندق يطلّ على البلدة القديمة بكل باروناميّتها، وبالقرب منه تقع كنيستان، واحدة كبيرة اسمها دير المسكوبية للراهبات [هكذا اسمها المتداول] ومدفون فيها جزء من جمجمة يوحنا المعمدان، وهي كنيسة أرثوذكسية روسية، تشكّل جرسيتها أو برجها، أعلى نقطة في جبل الزيتون، الذي هو بدوره أعلى جبال القدس قاطبة. وتؤمها على مدار العام وفود من الحجاج والسياح السلافيين وسواهم. أما الكنيسة الأخرى (الملاصقة في الواقع لجدران الفندق) فهي كنيسة الصعود، أو "كنيسة المصعد"، بالاسم المحلي الدارج، والمقصود صعود السيد المسيح إلى السماء. إنها جد صغيرة، حتى أنّ اسم كنيسة كثير عليها، فلم يبق منها غير قبة ضئيلة مثمّنة الأضلاع، وسط ساحة فارغة مسوّرة بالجدران، على هيئة الدائرة. والثابت تاريخياً، أنّ صلاح الدين الأيوبي، عندما دخل القدس، حوّل جزءاً منها إلى مسجد، بقيَ منه للآن السور والمئذنة. وتركَ هذه القبة، لإيمانه حسب المعتقد الإسلامي، بصعود المسيح. تزور الكنيسة هذه، على مدار اليوم والساعة، وفود ضخمة من الحجاج من أوروبا والأميركتين وأفريقيا وبعض آسيا. فالمكان مقدس جداً لديهم، وربما هو ثاني أقدس أثر مسيحي في القدس، بعد كنيسة القيامة.

ونعود للفندق: إنه محاذ لمستشفى المقاصد الإسلامية من جهة الجنوب - يفصل بينهما إسفلت فقط. وقد استأجرت السلطةُ في رام الله طابقين كاملين منه، وذلك بغية توفير إقامة كريمة لمرضى غزة ومرافقيهم، بعد آلاف القصص التي لا تليق بكرامة الناس. حيث كانوا يُحشرون في مكان، تفصله جدران خشبية، في ناحية من نواحي المستشفى، في حال أشبه ما يكون بحال الحيوانات.

ارتاح أخي للإقامة، وبدأت نفسيته تتحسّن، وبالأخصّ بعد المعاملة الطيبة من قبل المستخدمين، وبعد جلسة مع طبيب الأورام. حيث أكّد له الطبيب، رغم تقدم المرض، إمكانية الشفاء، خلال 3 سنوات، مع مداومة العلاج الهرموني، بعد العلاج الذري.

أخذنا دوشاً، وتخففنا من ملابسنا ونمنا. استيقظت قرابة العصر، على أصوات باعة، ففتحت الشباك ذا الضلفات الثلاث، لأكتشف أنّ غرفتنا تقع فوق سوق شعبي صغير فيه مطعم وفرن طابون ومحلات تبيع الخضار والفواكه والسمك والمخلّلات.

أعجبتني نداءات الباعة، ولهجة المقدسيين الشعبيين في الكلام. فالمقادسة، رغم عيشهم في مدينة تبدو مختلطة، ما زالوا محافظين على سمتهم الحضاري، كأبناء مدينة عريقة. منفتحون. ببعضهم رخاوة. طيبون وكرماء.

نزلنا وتجوّلنا في المحيط. ثمة جامع أثري اسمه "الزاوية الأسعدية" ملاصق للفندق، وكان يوماً بؤرة للصوفيين، وثمة كنائس كثيرة، مثل "كنيسة أبانا الذي" و"مقام رابعة العدوية". لكن ما استوقفني وآلمني هو ذلك العلم الإسرائيلي الكبير لدرجة الاستفزاز، من جهة الشرق، يرفعه أحد المستوطنين على قمة بيت، يدّعي أنه "اشتراه" من مقدسي رخيص النفس، وسط حي عربي بالكامل!


■ ■ ■


نزلنا وتجاوزنا البيت بكاميراته، ونحن لا ندري ماذا ينتظرنا في الأسفل. وكان ما ينتظرنا هو حقاً أجمل مفاجآت هذه الرحلة. منظر بانورامي كامل وبهي للبلدة القديمة، يتوسطها مسجد الصخرة بقبته الذهبية، ومن تحته كنيسة ماريا الروسية بقبابها التي تذكرك بقباب الكرملين. منظر أخذنا على حين غرة، فبهرنا وسمّرنا في مكاننا، متكئين على ذلك الحائط الصخري القصير، وحيدين تماماً، في مسافة لا تقلّ عن نصف كيلومتر.

عدت ثاني يوم وحيداً، لأشبع من هذا المنظر الفريد في العالم كله. فهنا توجد شيفرة البشرية برمّتها: هنا هو الصندوق الأسود الحاوي أسرار البشر منذ آلاف الأعوام.

لن أنسى ما حييت هذا المنظر. إنه سحر خالص. سحر خالص حتى لرجل علماني مثلي، لا تهمه الرموز، ولكنه جزء لا يتجزأ من حضارة وتاريخ هذا المكان. فهذا المكان، وبعيداً عن الإنشاء، هو قلب العالم. ثراء تاريخي لا مثيل له في أي مكان آخر. ديانات التوحيد الثلاث، اجتمعت هنا وتجاورت في رقعة صغيرة هي البلدة القديمة بأسوارها وأحيائها (مساحتها كيلومتر واحد فقط) وحولها تنتشر قبور تاريخية لمسيحيين ومسلمين ويهود صنعوا يوماً تاريخ هذه المنطقة، وربما تاريخ العالم القديم. فهنا دارت أعتى المعارك والغزوات، وتقلّب على المدينة رافدينيون وفارسيون ورومان وصليبيون، وهنا جرت معارك "الفتح الإسلامي" وآخرها على يد صلاح الدين. وهنا لا تزال تدور أعتى المعارك أيضاً، بصمت ولؤم، للاستيلاء على كل شبر من هذه المساحة. معارك يديرها الإسرائيليون والأميركيون لتهويد حتى المقابر التاريخية. فقد رأيت بأم عيني، مقابر حديثة لليهود، مبنية بالباطون لا الصخر، على هيئة سلاسل، ويبدو واضحاً أنها غريبة عن طبوغرافية المكان.

أشار لي إسماعيل الدباغ، في ليلة سابقة، نحو المسجد المرواني، وقال إنّ ثمة حديثاً يدور حول اتفاق سياسي، بين سلطة رام الله والحكومة الإسرائيلية، يُسمح لليهود بمقتضاه ببناء هيكلهم هنا، مع أخذ المساحة المحيطة بالمسجد، وهي مساحة كبيرة بالقياس، مقابل عدم بناء الهيكل تحت المسجد الأقصى. وإنه سيتمّ بناء "تلفريك" من أعلى الجبل، للوصول للمنطقة المقصودة.
أشار إسماعيل بإصبعه إلى قبور على مرمى النظر، وقال: هناك يوجد قبر الصحابي عبادة بن الصامت.

إنها منطقة كل حجر فيها تقبع وراءه حكاية. ووراء كل صخرة ثمة نبي أو فاتح أو غازٍ. ملك أو إمبراطور أو صحابي. منطقة بمحمول حضاري وديني وتاريخي، تبدو لرجل مثلي، ثقيلة الوطأة. فأنت ها هنا لا تستطيع التحرّر من عبء التاريخ. التاريخ ها هنا يتنفس في وجهك. يواجهك، يُقزّمك، حتى لو حاولت تجاهله. لذلك أظنّ أنّ العيش المستديم فيها مُكلف وذو إكراهات، بعكس الإقامة العابرة.


■ ■ ■


فرحت بوجود خدمة إنترنت موصولة على مدار الساعة. فكّرت في صديقي خالد النجار، وكتبت له رسالة. بعد ساعات جاءني الرد. هو هكذا خالد: لا يتقاعس عن صديق. أخبرته عن إقامتي في جبل الزيتون، وعن ظروف الزيارة، فطمأنني بأنّ السرطان لم يعد مرعباً كما كان في الماضي، وأنّ الكثير من الحالات تُشفى. كما أخبرني عن صديق له طبيب سرطان عالمي يمضي وقته متنقلاً بين الطائرات، وأنه مستعد لنقل أية أسئلة من جانبي إليه.

أما بخصوص جبل الزيتون، فقد أوضح خالد أنّه، هو المقصود في الآية: "والتين والزيتون وطور سينين"، وليس الثمار، كما جرت عادة التفاسير. تمنّى خالد، وهو أشهر مثقف عربي رحّالة في زماننا، لو يكون بيننا الآن، "نون" وأخي وأنا، ليرى القدس ويمشي في دروبها وتحت قناطرها المعلّقة. تمنيّت ذلك أيضاً، فلو كان خالد بيننا الآن، لأغنانا بما لا يخطر على بالنا، من دقائق وطرائف المعلومات التاريخية، ومن منسيّها وعميقها في آن. فهذا شاعر ومثقف موسوعي، قلّما نصادف مثيلاً له بين أقرانه المثقفين العرب.

ينزل في الفندق أيضاً "غروبات" سياحية من الأميركتين وأوروبا وروسيا. ولا يندر أن نلتقي مع سائح أو سائحة، ويدور الحديث عفو الخاطر، عن ماضي المدينة المقدسة وحاضرها وربما مستقبلها المنظور. اليوم التقيت بسائحة أميركية من لوس أنجليس، وتكلّمنا في الأدب، فسألتها عن أدباء أميركيين معاصرين وقدماء نوعاً ما، فلم تحر جواباً، ما أحالنا إلى الحديث ذي الشجون عن بوش وأوباما وسياسة أميركا في المنطقة.

أخبرتها عن فظاعات السلاح الأميركي في الحرب الأخيرة على غزة. كلّمتها عن اليورانيوم المخصّب، عن الأباتشي والإف 16، عن الأرض التي لم تعد تُنبت الزرع، عن البشر المرّشحين للعطب وأمراض السرطان، بفعل الإشعاع. قلت لها أخشى أن يتحوّل هذا الفندق كله إلى مثابة لمرضى السرطان الغزّيين، وليس طابقين منه فقط. اتضح من حديثها عدم معرفتها بشيء، تلقّت حديثي بدهشة واستغراب أقرب للبلاهة. هي التي لا تهتم بأمر خارج عالمها الأميركي الداخلي المحدود. تكلمت عن كرهها لبوش. قالت إنه في إعصار كاترينا لم يتدخل وتقاعس على نحو لافت. أنهيت الحديث، فلا جدوى. سألتها عن مقصدها لهذا اليوم، فرّدت: أودّ زيارة موقع مسّادا على البحر الميت. تمنيت لها رحلة موفقة!


* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة، والنص حول تجربته في عام 2009

المساهمون