"فن بانكسي.. الاحتجاج البصري" عنوان المعرض الذي افتتح في 21 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، ويستمر حتى نيسان/أبريل من العام المقبل، في "متحف موديك" Mudec في ميلانو الإيطالية. معرض يقدّم 80 عملاً فنياً من لوحات ومنحوتات ومطبوعات مصحوبة بصور فوتوغرافية ومقاطع فيديو تحاول رسم صورة عامة حول أحد أشهر فناني الغرافيك في العالم رغم هويته المجهولة.
طَرْحُ المعرض يبدو أكاديمياً إلى حد كبير، وهو ما يتفق مع توجّهات "المتحف" بتزويد الجمهور بمفاتيح تسمح لهم بفهم وتقدير ثقافات العالم والحداثة الفنية. لكن مفارقة المعرض تتمثّل في كونه يقدّم أعمالاً غير رسمية وغير مصرّح بعرضها من صاحبها، وهيهات أن يكون بانكسي قد وافق على حدث كهذا، حيث عُرفت عنه مناهضته لفضاءات الفن الرسمية والتجارية، وهو الذي قام منذ فترة بتمزيق لوحة بطريقة استعراضية عبر فرّامة ورق مخبّأة داخل الإطار خلال مزاد علني لأحد أعماله نظمته "مؤسسة سوثبي".
أثناء حفل الافتتاح، صرّح القيّم على المعرض، جانّي ميركوريو، بأن الأعمال التي اختيرت منتقاةٌ على خلفية روعتها الفنية، وقد قارنها ميركوريو بأعمال رسّام عصر النهضة الإيطالي كارافاجّو باعتباره من أوائل الفنانين الواقعيين، وأول من أدخل شخصيات من الشارع إلى لوحاته التي أخذت تسرد يوميات الإنسان العادي بعد أن كانت اللوحات منشغلة فقط بالشخصيات الأسطورية وبالملوك، مضيفاً بأن أعمال بانكسي تسرد الواقع هي الأخرى، بل وتولد في الشارع مع تغيّر في الثيمات، ومن أبرزها الاحتجاج السلمي والسخرية من السلطة والمجتمع الاستهلاكي.
إلى جانب ما يودّ المعرض أن يركّز عليه، يمكن أن نشير إلى أن بانكسي لا يقف عند مواضيع يتلقاها المواطن الأوروبي، إذ كثيراً ما تناول السياسة العالمية وتناقضاتها كما انتقد الثقافة السائدة والأخلاق بشكل عام، ولا شكّ بأن هالة الغموض التي أحاط بها نفسه قد جعلت منه "أسطورة" من أساطير عصرنا الراهن، ما جعل "احتجاجه البصري" يجتذب جمهوراً واسعاً على عكس معظم الفنانين المعارضين، وهؤلاء غالباً ما يجدون أنفسهم خارج دائرة اهتمام الصحافة ولا تستقبل الغاليريهات أعمالهم.
لذلك، من الطبيعي أن يتساءل أي متابع: لماذا اختار "موديك" بانكسي؟ هنا علينا أن نَعرف أن المعرض يأتي ضمن مشروع علمي-فنّي بعنوان "جغرافيات المستقبل" وهو محاولة لاكتشاف لثقافات أخرى، ليس بالمعنى المناطقي فحسب، ويهدف هذا المشروع إلى فهم محدّدات معرفتنا للعالم في المستقبل، ولا شكّ أن جماهيرية تجربة بانكسي قد لفتت المشتغلين على هذا المشروع ووجدوا أنه نموذج فريد ينبغي الالتفات له.
من الأعمال المعروضة في ميلانو، نذكر "لوحة الطفلة بالبالون"، و"مشاعر رقيقة تطير في الهواء"، و"الشرطي الذي يحمل بندقية ومزوّد بجناحين وعلى وجهه أيقونة: ابتسم"، و"المتظاهر الذي يقذف الشرطة بالزهور" (بدلاً من المولوتوف!). كما أن المعرض يقدّم نبذة عن الخلفيات التي تشكّل مرجعية صريحة لهذا العمل أو ذاك، إضافة إلى إطار عام من الحركات الاحتجاجية داخل عالم الفن فترتبط الرسوم المعروضة باحتجاجات عام 1968 أو رسومات فناني الغرافيك في نيويورك في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
كذلك، يضيء المعرض المرجعيات الفنية التي ينهل منها بانكسي، من ذلك الإشارة إلى استعمال التسلسل والتكرار مثلما هو الحال مع أندي وارهول أو عندما يتدخل لنسخ أعمال معروفة للغاية على مستوى عالمي مع إدراج بعض العناصر التي تغيّر من مغزاها، وتحوّلها من أيقونة استهلاكية إلى علامة احتجاجية، وهو بذلك يجعل من فنّه إثارة صريحة وعابرة لغطرسة المؤسسات الرأسمالية والسلطات الاستبدادية والنزعات الاستهلاكية التي تدمّر فكر الإنسان وروحه.
ومن خلال قراءة الأعمال، يتم توضيح الاستراتيجيات التي يعتمدها، وأهداف رسالته وأسلوبه في الرسم، مع شرح واف لتقنية الرسم على الجدران وكيف يُحسن بانكسي استخدامها خصوصاً وأنه إزاء هدف مزدوج: القدرة على القيام بعمل غير قانوني بسرعة فائقة، وفي نفس الوقت تمرير رسالة تمس المشاهد، وما يقتضيه ذلك من صنعة فنية وإثراء للعمل بالتفاصيل.
أما القسم الخاص بالفيديو، فيروي للزائرين قصة عدد من اللوحات الجدارية التي أنجزها بانكسي في أماكن مختلفة من العالم، بعضها لا تزال موجودة وبعضها الآخر جرى تخريبه أو لم يعد لها أثر.
تجدر الإشارة هنا إلى أن بانكسي المعروف بصوته الاحتجاجي العالي، لم يَثُر في أية مناسبة على المسّ بأحد أعماله، بالعكس يبدي أحياناً تعاطفاً مع هذا الصنيع باعتباره رؤية غير استهلاكية للفن، خصوصاً وأنه كثيراً ما انتقد فكرة الحيازة في المجتمعات الاستهلاكية والسعادة الفارغة التي يشعر بها الناس من خلال ملكية المواد، الاستهلاكية منها أو الفنية، وهو ما يعبّر عنه عمله الذي يظهر فيه أشخاص يركعون أمام لافتة كُتب عليها "آخر يوم من تخفيضات الأسعار".
من النقاط التي يشير إليها المعرض استدعاء بانكسي للجرذان في أعماله، وكيف أن هذه الكائنات المكروهة تدخل العمل الفنّي ولا تمسّ بجمالياته، خصوصاً وهو يشحنها بمعان مجازية، فبينما تقوم الجرذان بملء الأنفاق والمناطق المتردّية في ضواحي المدن الحديثة، يتنقّل فنانو الغرافيتي في الظلام، في أماكن مشابهة للغاية. وهكذا تتحوّل الجرذان في أعماله إلى شريحة من المتمرّدين المسلّحين بالألوان. ووجهة نظر بانكسي في هذا المجال واضحة جداً: إذا كانت السلطة تمارس هيمنتها الثقافية في التلفزيون والسينما والإعلانات والمدارس وغيرها من الوسائل المتاحة لها، فإن الفنان يجد في الشارع المكان المثالي لتنفيذ الهيمنة المضادة.
يذكر أنه وعلى هامش هذا المعرض، سيقوم الـ"موديك" بالتعاون مع بلدية ميلانو، ابتداء من 15 كانون الثاني/ يناير المقبل، بتوزيع 220 لوحات بيضاء بقياس 140×200 سم لهواة في شوارع المدينة، ومنهم رسّامو الغرافيتي، دون أي شروط مسبقة سواء على مستوى المضامين أو التقنيات، وسوف يتم توزيع نفس العدد كل 15 يوماً لغاية انتهاء المعرض.