على عكس كتاباته التاريخية المختصة بالمرحلة العثمانية، يتناول المؤرخ التركي البارز إلبير أورتايلي في كتابه الجديد، "كيف يُعاش العمر"، الصادر عن دار "Kronik" التركية، موضوعات حيوية ينقل من خلالها تجربته الحياتية حول كيفية قضاء الوقت وجعل الحياة أكثر متعة، وذلك ضمن حوار طويل أجراه معه الصحافي التركي ينال بلغجي.
يطرح صاحب "إعادة اكتشاف العثمانيين" توصياته حول اختيار الإنسان عمله وكيفية استخدام مواهبه، كما يتطرّق إلى كيفية بناء الإنسان علاقاته الاجتماعية الإنسانية، والاستفادة من المدينة التي يعيش فيها، وأبرز الأماكن التي يجب زيارتها عند السفر إلى مدينة جديدة، وكيفية الاستفادة من زيارة المتاحف. وجدير بالذكر أن أورتايلي قد شغل منصب مدير "متحف طوب كابي" في إسطنبول بين عامي 2005 و2012، ويعمل حالياً أستاذاً للتاريخ في "جامعة غلطة سراي" بإسطنبول و"جامعة بيلكنت" بأنقرة.
يتناول أورتايلي في هذا الفصل من الكتاب علاقته القديمة بمدينة إسطنبول، وهو الذي ولد في مدينة بريغنز النمساوية عام 1947 لعائلة من تتار القرم هاجرت إلى تركيا بعد عام من ولادته. بالإضافة إلى توصياته بأفضل الأماكن التي يجب زيارتها في إسطنبول، وأبرز التغيرات التي طرأت على المدينة من الناحية المعمارية والسكانيّة، وأثر الهجرة على هذه المدينة التاريخية.
■ لو تحدّثنا عن إسطنبول، ما هي أفضل الأماكن التي تحبّها وتنصح القراء بزيارتها في إسطنبول؟
- سأبدأ بآيا صوفيا والسليمانية التي أنشأها المعماري سنان. وبالتأكيد أختار أيضاً طوب كابي ودولمه بهتشي، وإلى جانب ذلك المتحف العسكري وجامع فناري عيسى، وكل الجوامع التي بناها المعماري سنان، والمتحف الأركيولوجي، ومتحف الآثار الإسلامية. وفوق ذلك، يجب أن نختار متحف سابانجي، ومتحف بيرا، ومتحف الفن الحديث، وهذه المتاحف الثلاثة ستستغرق بعض الوقت من أجل تجديدها. وأضيف على ذلك، أننا نفتقد وجود متحف لتاريخ المدينة، ولم تُؤخذ أي خطوة جدية في هذا السياق حتى الآن. ويجب أن يُقال هذا في كل فرصة. يليق بنا أن نؤسس هذا المتحف.
نعود إلى آثار المعماري سنان؛ يوجد جسر في بيوك تشكمجه، وجامع رستم باشا في تهتاكالي، وجامع سوكولو محمد باشا في كوتشوك آيا صوفيا. ومن الممكن أن تعدّ له خمسين أثراً مثل هذا؛ كالمقام الذي أنشأه في حيّ سلطان أيوب، والقصور الصغيرة. وهذا يعني أننا لا نقصد الجوامع الكبيرة فقط.
وإذا أردتُ التجوّل في الأماكن التي أُحبّها في إسطنبول، فسوف أبدأ بالمرحلة العثمانية الكلاسيكية، وأتجوّل في أحياء العلماء كالفاتح وتشارشمبه، وفي الحارات الضيقة بالسليمانية وزيرك ووفا حتى أصل إلى القرن التاسع عشر. وبعد أن أخرج من هناك، أذهب إلى بعض البنايات في باي أوغلو وسيركجي، مثل بناية بيوك بستان التي أنشأها المعماري وداد بك، ومن الممكن أن نجد العديد من الآثار الأخرى في إسطنبول التي تتجاوز حجم هذا الفصل، لكنني أنبّه الذين يريدون التجوّل في هذه المدينة الكبيرة بأن فيها أماكن مخبأة كاللؤلؤ، ولذلك يجب أن نبذل الجهد من أجل الذهاب إليها، أن نقضي وقتاً كافياً فيها.
■ هل من الممكن أن تذكر لنا أمثلة عن تلك الأماكن؟
- مثلاً، عندما تمر من زيرك إلى وفا ستجد مجرى مائيّاً اسمه فالنس، وبجواره مدرسة تأسست في القرن السابع عشر، وهي تحفة معمارية من ناحية الأعمال الحجرية، وقد بناها المعماري داوود آغا، بأمر من غضنفر آغا. وهناك أيضاً أماكن صارت اليوم مشهورة، مثل فنار وبلاط وأيوان سراي، لكنني أوصي من يذهب إلى هناك بأن يتجول في كل شوارع هذه الأحياء، بلا كسل. ففي كل دقيقة ستجدون هناك جمالاً مختلفاً، وسيخلق لديكم شغفاً جديداً بإسطنبول. من الممكن أن تجدوا أماكن خربة سوف تحزنكم، ولكنكم بمثل هذه التجربة ستصبحون حقاً من أهالي إسطنبول، لأنكم رأيتم كل جوانبها.
■ أعرف أنك تتجوّل في إسطنبول وتستخرج تفاصيل صغيرة من البيوت والقصور والناس والتماثيل التي تشاهدها. فمتى بدأ هذا التجوّل؟
- أتجوّل في إسطنبول منذ الطفولة، ومنذ ذلك الزمن كنت أخرج من كاراكوي وحيداً إلى إسطنبول القديمة، وكنت أمشي حتى سور إتشي وكنت أمر بأماكن خطرة. وقد بدأت التجوّل الحقيقي منذ عام 1960، تجوّلتُ في إسطنبول التي أعشقها شارعاً شارعاً، وتعلمت كثيراً من الأشياء أثناء ذلك. وأتصوّر أنه يجب أن تفعل هذا لكي تعرف مدينة ما، لتتشرّب روحها. وأنصح الجميع بفعل ذلك. تعرفت أثناء تجوّلي على إسطنبول القديمة التي راحت، وبفضل هذا التجوّل كتبت ذلك في كتبي، وأنا سعيد لأنني فعلت هذا. وهناك فائدة أخرى، حيث اكتسبتُ فكراً حول المدينة ومعمارها، وبفضل هذا، اكتسبتُ وعياً كافياً أثناء رؤيتي لآثار أنقرة والأناضول وتراقيا في ما بعد. فالآثار العثمانية التي شاهدتها أثناء زيارتي لسورية في السبعينيات، والآثار البيزنطية التي شاهدتها في إيجه والأناضول، وكل ما رأيته في لبنان وفلسطين، استطعت تقييمه بوعي أكبر، وكل ذلك بفضل تجوالي القديم في إسطنبول.
■ وما هي أكثر الأماكن التي تحبّها في إسطنبول؟
- أحب أوسكودار، لكن معمارها قد تغيّر كثيراً قياساً بالماضي. وعلى خط البوسفور كل شيء قد تغيّر، باستثناء إميرجان. عندما تتجوّل في أحياء إسطنبول، تشعر أنك قد أُعجبتَ بأحد الأحياء لكنك لن تتحمّل الأهالي، وإذا أعجبك الأهالي في حيّ آخر فمن الممكن ألا يعجبك المعمار. إنه عمل صعب… يحزنني كثيراً تغيّر إسطنبول التي شاهدتها في طفولتي. تخيّل أنني جئت إلى إسطنبول لأول مرة عام 1948، وبالتأكيد لا أتذكر تلك الأيام ثم انتقلنا إلى أنقرة، وعدنا بعد ذلك إلى إسطنبول عام 1953. إنني أتذكر إسطنبول تلك أو بالأحرى إسطنبول الرائعة.
■ هل هناك فروق كبيرة بين إسطنبول التي تتحدّث عنها وإسطنبول الآن؟
- نعم، بالتأكيد. تلك مدينة وهذه مدينة أخرى تماماً. لقد عرفت المعنى الحقيقي لإسطنبول عندما عشتُ لفترة في حيّ الفاتح. لم يتبق من إسطنبول القديمة سوى بعض الأشياء القليلة. إسطنبول الآن مختلفة تماماً، لقد كان حيّ الفاتح قبل ستينيات القرن الماضي هو أساس إسطنبول، ليس فقط من الناحية المعمارية، ولكن في ما يخصّ السكان أيضاً. كان لأهل هذا الحيّ طريقتهم وآدابهم في المعاملة. دعك من أن إسطنبول كانت عاصمة لمئات السنين، لقد مرّت أيضاً بظروف قاسية خلال ذلك. ولم يكن سهلًا أبداً إطعام العدد الهائل من قاطني هذه المدينة الكبيرة. وكان الأهالي يتحمّلون ذلك بحنكة. لقد كان الأهالي أيضاً مختلفين إذا قارنتَهم باليوم، مثلما كانت المدينة. مثلاً، أوسكودار؛ الجوامع والترام وكل شيء كان مختلفاً. وسيركجي، كانت من الأحياء الحيوية جدّاً، وكانت ممتلئة بالحدائق الساكنة والبيوت الخشبية…
لم تكن قصور البشوات قد هُدمت بعد. بالتأكيد لم تكن هذه القصور بنفس البهاء لكنها كانت موجودة على الأقل. وكما تعرف، لم يعد سكان هذه القصور من البشوات أو الأفندية، وساءت أوضاع وارثيهم بعد ذلك، وأصبحوا يُؤجّرون القصور بالغرفة، حتى إن القصر الواحد صار سكناً لخمس عائلات. بعد ذلك باع الورثة هذه القصور وانتقلوا إلى مدن أخرى، ثم هُدمت القصور لاحقاً. وبهذا الشكل راحت أغلب القصور. وقد اختلقوا الأسباب لكي يهدموا تلك القصور، فقالوا مثلاً، عندما يمر الترام سيمس مشربيات القصور. وفي لشبونة على سبيل المثال يمرّ الترام أيضاً من أمام القصور على نفس المسافة لكنهم لم يتخذوا ذلك ذريعة لهدمها.
إسطنبول القديمة لم تعد كما كانت بالتأكيد، لم يتبق منها غير بعض الجوامع. تحدّثت قبل قليل عن فاتح وتشرشمبه، مثل هذه الأحياء كان يسكنها العلماء الأثرياء، وكانت مثالاً للمعمار الخشبي. وقد راحت البيوت الخشبية أيضاً مع بداية بناء البيوت الإسمنتية. وحلّت محل البيوت الخشبية الواسعة، بيوت إسمنتية ضيقة. قلت إن الجوامع هي أكثر ما تبقى من الماضي، لكن كثيراً منها قد راحت أيضاً. مثلاً، في عهد عدنان مندريس، أثناء عمليات الإعمار تم هدم خمسة جوامع بناها المعماري سنان، كما هُدمت أيضاً واحدة من أجمل آثار القرن السابع عشر، وهي كلية كمنكيش قره مصطفى باشا. إلا أن كل هذه الأشياء كانت نتيجة، حيث أن مسألة الهجرة هي التي أنهت إسطنبول القديمة حقّاً. فمع الهجرة تغيّر أساس إسطنبول تماماً، وهاجر أهل الأحياء القديمة إلى بورصة وإزمير وغيرهما من المدن، وغيّر القادمون كل شيء بعد ذلك.
* تتنوّع انشغالات إلبير أورتايلي (1947) البحثية، حيث يهتم بتاريخ المدن وتاريخ المؤسسات والتاريخ الثقافي إضافة إلى دراساته حول الديبلوماسية، ومعروف عنه تعدّد اللغات التي يتقنها. من أبرز مؤلفاته: "التاريخ الإداري لتركيا" (1979)، و"التأثير الألماني على الدولة العثمانية" (1980)، و"تقاليد الإدارة المحلية، من عصر التنظيمات إلى الجمهورية" (1985)، و"السلام العثماني" (2004)، و"رحلة إلى العالم القديم" (2007).
** ترجمة عن التركية: أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير