الترجمة والدبلوماسية

09 يونيو 2018
كريم أبو شقرة/ فلسطين
+ الخط -

تعوَّد الناس على رؤية المترجمين رفقة الدبلوماسيين في المؤتمرات وفي غيرها من المناسبات، يُنجزون أشكالاً من الترجمة الفورية منها والتتابعية وغيرهما. لذلك لن يستغرب القارئ من العنوان أعلاه، ولن يستغرب أيضاً من تخصيص المؤسسات الأكاديمية الدبلوماسية في الغرب وغيرِه حِصصاً للترجمة، وإفراد المعاهد العليا للترجمة مجزوءات تكوينية في الترجمة المتخصصة في السياسية.

وتبدو العلاقة بين المجاليْن موغلة في القِدم؛ إذ يُطلعنا القرآن الكريم على أشكال من الترجمة متعدّدة، لعل أغربَها ما كان من أمر النبي سليمان، الذي كان يُحدّث مخلوقات الله جميعَها حشراتِها وحيواناتها، وكان يُفهِم عنها بالضرورة رعاياه، بدليل قوله تعالى، في سورة النمل: "وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ". ونَفْهم من ذلك أنّ سليمان كان تُرجماناً، وفي الوقت ذاته، سياسياً، ينقل الكلام من نظام سيميائي إلى آخر، ويكون، بذلك، يُمارسُ الترجمة بين-سيميائية، وَفْق رومان جاكبسون، ويُمكن أن يكون قد نقل الكلام من لغة إلى أخرى، فيكون ممارساً للترجمة بين-لغوية، حَسب جاكوبسون أيضاً.

ويُعرِّفنا القرآن الكريم على النوع الثالث من الترجمة، الذي يُنعتُ بالترجمة داخل-اللغة، ولعل مثالَه الأوضح النبيُّ هارون أخُ الرسول موسى، عليه السلام. فقد ترجم هارون عن موسى، في موقف سياسي بعد أن التمس الرسولُ ذلك من ربه في قوله، في سورة طه: "قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي، وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً، وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً، إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً". ليكون هارون قد قام بمهمة دبلوماسية، ومارس ترجمة فورية داخل اللغة نفسها، دون شك، أمام فرعون، في موقف سياسي.

هكذا، نكتشف أن الترجمة والدبلوماسية يتعايشان في انسجام منذ الأزل، وأن اللغة الأجنبية التي يتحدَّثها الدبلوماسي تُسعف في إيصال الرَّسائل والتقريب بين الثقافتيْن وتحقيق التفاهم بين البلديْن.

ويقف المتتبعُ للحياة السياسية في أميركا اللاتينية على وجودِ تقليدٍ دبلوماسي، يتمثّل في إسناد مهمة سفير أو قنصل إلى أدباء مرموقين، منهم الشاعرة غابْرِيِيلا مِيسْتْرال (1889-1957) قُنصل بلدها التشيلي في نيويورك، ومواطنها الشاعر السفير في باريس بَابْلو نيرودا (1904-1973).

وخلافاً للتشِّيليَّيْن الآنفيْن، فإن المكسيكيين أوكتافيو باث (1914-1998)، سِيرْخيو بِيتُول (1938-2018)، برَّزا بصفتهما مترجِميْن لامعيْن، لإسْهامِهِما حقيقة في التعريف بثقافة الشرق الأقصى والفرنسية والإنكليزية، بترجمتهما لكثير من المؤلَّفات الإبداعية، وبإدخال إوكتافيو باث، إضافة إلى الشاعر المترجِم خْوانْ خُوصِي طَبْلادا، لشِعر الهايكو إلى الأدب الأميركولاتيني، وكان ذلك أمراً طبيعيّاً، نظراً للإقامة مدة طويلة خارجَ وطنهما. وبذلك خدمت الترجمة الدبلوماسية والعكس صحيح.

ويحز في النفس ألا يكون لديْنا في البلاد العربية دبلوماسيون على غرار هؤلاء يضيفون إلى مهمتهم السياسيةِ الاشتغال بالثقافة والترجمة أيضاً، عِلماً بأنْ لا سفارة تخلو من ملحق ثقافي، وأن سفارات عديدة ضمّتْ أسماء إبداعية كبيرة مثل الشاعريْن نزار قباني وعبد الوهاب البياتي، اللذيْن أقاما في مدريد، لكنهما خدما الاستعراب، ولم يوليا اعتباراً للترجمة.

ولعل الاستثناء العربي الوحيد ربما يُمثَّله الروائي والناقد سفير المغرب لدى التشيلي عبد القادر الشاوي، الذي عرَفتْ فترةُ تقلُّده المسؤولية هناك تحوُّلاً في الحضور الدبلوماسي المغربي في الخارج، حيث نهض "المركز الثقافي محمد السادس لحوار الحضارات" في كُوكِيمْبُو التشيليَّة بأنشطة ثقافية متنوعة وبالتعريف بالأعمال الأدبية والفكرية المغربية عبر ترجمتها، والعكس أيضاً.

فهل سينتبه العرب إلى أهمية الترجمة وإلى ضرورة استعمالها من قِبَل الدبلوماسية للترويج لتقديم صورة تنويرية ومتفتحة عن العرب؟

دلالات
المساهمون