عمدة باليرمو ليولوكا أورلاندو: المهاجر ليس رقماً (7/7)

11 مارس 2018
نطالب بوثيقة تتيح حرية التنقّل (العربي الجديد)
+ الخط -

"يوماً ما، سوف نُحاسَب مثلما جرت محاسبة النازيين". هذا ما يؤكده عمدة باليرمو، عاصمة صقلية (سيشيليا)، في حديث إلى "العربي الجديد". يضيف ليولوكا أورلاندو: "أخجل أحياناً من كوني أوروبياً، فالقانون الأوروبي مجرم"، مشدداً على أنّ "المهاجر ليس رقماً وإنّما هو إنسان، ومن حقّ كل إنسان اختيار مكان عيشه". إليكم الحلقة السابعة والأخيرة من ملف "السجن الأبيض المتوسط".



* عرفت صقلية، خصوصاً باليرمو، تغيّراً كبيراً، لا سيّما أنّ أزيز الرصاص اختفى من الشوارع ليعيش الأهالي على إيقاع هادئ.


- باليرمو اليوم ليست باليرمو قبل 40 عاماً، تلك التي كانت تحكمها المافيا. هي نجحت في إنجاز خطوات إصلاحية كبيرة، في حين تغيّرت عقلية المواطنين. ولعلّها المدينة التي شهدت أعمق تغيّر في العالم. صحيح أنّ مدناً أخرى مثل برلين وبراغ وحتى تونس العاصمة شهدت تغيّرات كبيرة، غير أنّ التحوّل الذي شهدته باليرمو كان أعمق بكثير. ففيها، لم يتغيّر النظام أو الدستور أو القانون فحسب، وإنّما عقلية الناس كذلك. وتحوّلت من عاصمة للمافيا إلى عاصمة للثقافة، لكنّ هذا لا يعني بالتأكيد أنّ المافيا انتهت. ولا ننسى أنّه في السابق، كان رئيس البلدية مثلاً إمّا منتمياً للمافيا أو صديقاً للمافيا.

* بما أنّنا نتحدث عن العقلية، هل عقلية الشعب في باليرمو وعقلية الحكومة الإيطالية وعقلية المسؤولين عموماً قابلة للتعامل مع الهجرة غير الشرعية؟

- باليرمو ليست فرانكفورت ولا برلين مع احترامي للألمان. باليرمو هي مدينة متوسطية وتنتمي إلى تاريخ البحر الأبيض المتوسط، ونحن نؤمن بأنّنا جزء من ذلك التاريخ وبأنّنا بلد استقبال مفتوح. ومن يقطن في باليرمو يؤمن بحرية الانتماء، لذلك نحن ندافع اليوم عن حقّ الأشخاص بالتنقّل وندعو إلى استحداث وثيقة تتيح حرية التنقّل.


* ألا تخشون من أن يكون رأيكم مختلفاً عن رأي مسؤولي بلدكم الآخرين، فتسبحون ضدّ التيار، خصوصاً مع الصعود المتنامي لليمين المتطرّف وتراجع ما يمكن تسميته "الأحزاب الإنسانية"؟

- مثلما قلنا سابقاً، فإنّ باليرمو تغيّرت. وأنا لم أكن أخاف عندما كانت المافيا تحكم. لم أكن أخشاها، بل كنت أخشى الذين كانوا إلى جانبي، ولي الشرف أنّ أكون مختلفاً. فأنا مقتنع بأنّ من يريد التغيير عليه أن يكون مختلفاً. وأؤكد أنّه لو لم يكن صوتي مختلفاً، لما تمكّنا من التغيير. المافيا قتلت قضاة ورجال دين في الكنائس، لأنّ البلاد خانتهم قبل أن تخونهم المافيا. ومنذ القدم، كانت العصابات تتوغّل في مفاصل الدولة. لا أتحدّث هنا عن الإجرام العادي، إنّما عن الإجرام السياسي مثل المافيا. وعندما كنت أحاربها، جعلت منّي عدواً للدولة والكنيسة وعدواً الجميع.



* على أرض الواقع، كيف تتعامل الحكومة مع المهاجرين الذين تلاحقهم الشرطة الإيطالية وتظلمهم القوانين ويعيشون بمعظمهم في ظروف قاسية؟

- التغيير لا يمكن أن يكون سريعاً، بالتالي فإنّه من غير الممكن اتخاذ بعض القرارات. ونحن نطالب بوثيقة تتيح حرية التنقّل، إذ إنّ ما تمنحه باليرمو للمهاجرين ليس صالحاً إلا لبعض الوقت. ونحاول إقناع الناس في إيطاليا وشركائنا الأوروبيين بذلك، وهي مقاربة إنسانية تحترم حقّ الإنسان في التنقّل واختيار المكان الذي يختاره للإقامة فيه، في حين أنّه لا يتاح له اختيار مكان ولادته.
لكن ثمّة من يلجأ إلى المقاربة الأمنية فيتعامل مع المهاجرين على أساسها. بالنسبة إليّ، لا يجب أن ندع الخوف يسيطر علينا، بل من واجبنا منح المهاجرين حرية اختيار مكان عيشهم. من جهة، لا يمكن تجاهل هذه الظاهرة ومن جهة أخرى فإنّ تلك الحرية من حقوق المهاجرين كذلك. وفي حال سيطر علينا الخوف، فإنّه سوف يتعاظم ويكبر. وقد نقول بداية "لو لم يصلوا إلينا"، ثمّ "لو لم يخرجوا من ليبيا"، وفي النهاية "لو لم يأتوا إلى الحياة في الأصل". الخوف يقود إلى العنصرية حتماً، ويوماً ما سوف يحاسبنا التاريخ على الذين قضوا في البحر الأبيض المتوسط بالطريقة نفسها التي حاكم على أساسها النازيون. وحينها، لا يمكننا القول إنّنا لم نكن نعرف ولم ندرك الأمر، ولا إغماض عيوننا. لا بدّ من أن نتحمّل مسؤوليتنا قبل فوات الأوان.


* تفيد إحصاءات بأنّ نحو خمسة ملايين أجنبي، معظمهم من الشباب، يعيشون في إيطاليا. أليس هؤلاء قوة اقتصادية لها؟

- أنا لست فيلسوفاً ولا شاعراً، لكن بصفتي عمدة، فإنّ مهمّتي هي مصلحة ناخبيّ. وإن سألتني كم هو عدد المهاجرين في باليرمو، فسوف أجيب بأنّ لا مهاجرين فيها. بالنسبة إليّ، كلّ من يعيش في باليرمو وكلّ من اختارها مكاناً للعيش، فهو ينتمي إلينا.
والقانون الحالي في إيطاليا يجبر المهاجرين على الالتجاء إلى العصابات، لأنّ من يقصيه القانون سوف يبحث من دون شك عن طرق موازية وخلفية وسوف يسقط بالتالي في براثن الخارجين عن القانون. وللمتطرّفين الذين يصوّرون المهاجرين على أنّهم خطر داهم علينا، أقول لهم دائماً: انظروا إلى الأرقام وتأمّلوا فيها. الوضع الحالي يسيطر عليه تجّار الموت، كذلك يفعل سياسيّو الموت. والقانون اليوم هو في مصلحة العصابات وليس في مصلحة إيطاليا.

* هل تحوّلت الهجرة السرية في إيطاليا الى بزنس وتجارة للعصابات، وربمّا للدولة كذلك؟

- نعم، هذا صحيح. كلّ شيء ممنوع يتحوّل إلى تجارة وبزنس، تماماً مثل ما حدث في الولايات المتحدة مع آل كابون وأمثاله. وأظنّ أنّ بطاقة الإقامة وتأشيرة الدخول تطرحان مشكلة كبيرة وهما جوهر هذه العملية. وأنا أقول صراحة إنّ القانون الأوروبي في هذا المجال مجرم ويشجّع العصابات. مثلاً المهاجر السوري الذي غادر بلاده لقاء بدل سدّده للوسطاء أم من دون بدل، ألم يكن في وسعنا أن نفتح له الباب مباشرة ونقطع الطريق على كلّ الشبكات التي تستثمر أموال أمثاله بعد ذلك لتمويل إجرامها؟ نحن نعي العملية من أوّلها، لكنّنا نسمح بها.

 

* ماذا عن أمّهات المهاجرين التونسيين اللواتي لا يملكنَ أدنى معلومة عن أبنائهنّ، سواء أكانوا أحياء أم فارقوا الحياة عند الحدود الإيطالية أو في عرض البحر؟ ماذا تقولون لهنّ؟

- سوف أوضح الأمر مرّة أخرى. بالنسبة إلى أمهات المهاجرين، فإنّهن شاهدات على قضيّة البحر الأبيض المتوسط، وأنا أؤمن بأنّ هذه القضيّة سوف تحَلّ يوماً ما.
قد يكون بيتي صغيراً، وقد تكون باليرمو صغيرة كذلك، والأمر نفسه بالنسبة إلى صقلية، في حين أنّ إيطاليا بحدّ ذاتها قد لا تكون كافية لاستيعاب هذا العدد من المهاجرين، لكن أليس في إمكان 27 دولة أوروبية (أخرى) استقبال هؤلاء المهاجرين؟ عموماً، العدد لا يتجاوز 15 مليون مهاجر، وحتى إذا وصل إلى 20 مليوناً، ألن يصبّ ذلك في مصلحة بلدان الاستقبال عند جمع الضرائب وعند الحاجة إلى يد عاملة، لا سيّما بسبب هرم سكان أوروبا؟ ألن يكون للمهاجرين نفع عندها؟ في كلّ الأحوال، المهاجر يظلّ إنساناً، والإنسان قادر على تغيير نفسه والتأقلم مع أيّ محيط يوضَع فيه. أنا أحياناً، أخجل لأنّني أوروبي، لأنّ المهاجر بالنسبة إليّ ليس رقماً ولا شيئاً وإنّما هو إنسان.

* يبقى سؤال، هل نحن اليوم أمام لحظة تاريخية فارقة في المتوسّط؟

- العالم اليوم يمثّله المحرّك "غوغل" والمهاجر "أحمد". وبعدما تناسى العالم هذه المنطقة لفترة طويلة وتحوّل المتوسط إلى وادٍ صغير، عادت أنظار العالم لتسلّط عليه اليوم بسبب موجات الهجرة، وهذه مسألة إيجابية بالنسبة إلينا.
أنا لست صقليّاً لأنّني ولدت في صقلية، بل لأنّني اخترت ذلك. وأنا أدافع عن حرية أيّ كان في اختيار مكان إقامته، أينما كان مسقط رأسه، تونس أو ليبيا أو إيطاليا. وثمّة دراسة تبيّن أنّ أكثر من 80 في المائة من الذين انتخبوني، تراوحت أعمارهم بين 18 و30 عاماً، في حين أنّ آباءهم وأمهاتهم لم يفعلوا. والسبب هو أنّ الشباب ينظرون دائماً إلى المستقبل، وأنا أرى نفسي مدافعاً عن المستقبل.


نبذة

للمرّة الرابعة، يشغل ليولوكا أورلاندو منصب عمدة باليرمو، في خلال فتراتٍ متباعدةٍ منذ عام 1980. وأورلاندو المولود في الأول من أغسطس/ آب 1947، كاتب وأستاذ جامعي وبرلماني أوروبي، وهو يُعرَف كسياسي إيطالي قدير يقف في وجه المافيا ويقود حرباً ضدّ اليمين المتطرّف، خصوصاً في صقلية (سيشيليا). يُذكر أنّ أورلاندو حاصل على وسام "معهد غوته" الألماني في عام 1999 وجائزة "مؤسسة كونراد أديناور" الألمانية في عام 2008 بالإضافة إلى جوائز أخرى.
المساهمون