يُعتبر الدولار العملة الأكثر استخداماً في العالم، حيث تحتفظ العديد من الحكومات والبنوك المركزية بجزء كبير من احتياطياتها النقدية بالدولار، كما يتمّ تسعير النفط الخام والعديد من السلع بالدولار، بالإضافة إلى ذلك تتمّ العديد من الصفقات التجارية في جميع أنحاء العالم بالدولار.
واستغلَّت أميركا هيمنة الدولار أحسن استغلال في الضغط على منافسيها والحكومات التي تعاديها، لذلك أعلنت دول مثل روسيا، تركيا، إيران والصين عن التَّخلِّي عن الدولار في معاملاتهم التجارية والتعامل بعملاتهم الوطنية كطريقة لتجنُّب الضربات الموجعة للعقوبات والسياسات الأميركية، وإن حذت دول أخرى حذو هذه الدول سيفقد الدولار حتماً مكانته كأهمّ عملة احتياطية في العالم والتي حافظ عليها لعدّة عقود من الزمن.
الحرب التجارية تتحوُّل إلى حرب عملات
شنّت أميركا حرباً تجارية على الصين، ولم يتردَّد رئيسها ترامب في اتهام الصين بالتلاعب بعملتها بهدف التقليل من تنافسية الصادرات الأميركية، وعبَّر ترامب عن غضبه الشديد إزاء قيام التجار الصينيين بجني المال بسهولة تامة نظراً لانخفاض قيمة عملتهم مقابل الدولار، وهكذا حوَّلت الصين تلك الحرب التجارية إلى حرب عملات خطيرة من خلال قيامها بتخفيض قيمة اليوان أو الرنمينبي وهذا ما يمقته ترامب الذي يتلهَّف لتحقيق فائض تجاري كبير، وكل ذلك من أجل تلميع صورته وتعظيم إنجازاته خلال فترته الرئاسية.
وإلى جانب ذلك، يستمرّ ترامب في انتقاد وإلقاء اللوم على مجلس الاحتياط الفدرالي (البنك المركزي الأميركي) والذي رفع أسعار الفائدة التي عزَّزت بدورها من قيمة الدولار، مُتناسياً أثر التخفيضات الضريبية التي أقرَّها في رفع قوّة الدولار.
وعلى عكس الوضع في أميركا، يتحكَّم بنك الصين الشعبي (البنك المركزي الصيني) بشكل مباشر في قيمة العملة؛ كما وجَّهت الصين ضربة قويّة إلى الدولار في سوق الطاقة العالمي من خلال قيامها بإطلاق العقود النفطية الآجلة المُقوَّمة باليوان.
الاستنفار الروسي، الإيراني والتركي
فرضت أميركا بشكل عُدوانيّ عدّة عقوبات على إيران، تركيا وروسيا، والتي ردت على ذلك بالإعلان عن التعامل بعملاتها الوطنية في تعاملاتها التجارية المتبادلة، فقد دخلت الاتفاقيات الروسية الصينية بشأن التجارة المباشرة بالروبل الروسي واليوان حيّز التنفيذ في ديسمبر 2014، وهذا ما يعني عدم مشاركة البنوك الأميركية، البريطانية والأوروبية في المعاملات التجارية الثنائية بين روسيا والصين.
وتدرس الحكومة الروسية إمكانية التعامل بالروبل في تجارتها النفطية مع إيران وتركيا نظراً لتصاعد التوتُّر مع الولايات المتحدة.
كما تخلَّت إيران عن التعامل بالعملة الأميركية الخضراء وبدأت التعامل باليورو مع دول العالم وقرَّرت التعامل تجارياً مع روسيا والصين والهند وتركيا بالعملات الوطنية بدلاً من الدولار، وتُخطِّط تركيا للتَّخلِّي عن العملة الأميركية وتحوَّلت بالفعل إلى التعامل بعملتها الليرة مع إيران.
وهكذا لجأت هذه الدول إلى التخلُّص من التعامل بالدولار في تجارتها وهي أفضل طريقة للتَّغلُّب على العقوبات الأميركية التي أدَّت إلى تعقيد معاملات تلك الدول بالدولار نظراً لضرورة معالجتها من خلال النظام المالي الأميركي.
تقف الصين إلى جانب تلك الدول في تجاوز الدولار في تجارتها الدولية لأنّ أميركا بالغت كثيراً في استخدام عملتها كوسيلة للإكراه السياسي والاقتصادي.
على العموم، دول كروسيا وتركيا وإيران ليست قويّة بما فيه الكفاية لتحدِّي هيمنة الدولار، لكن عند إضافة الصين إلى المعادلة سيختلف الأمر كثيراً، فالصين هي الدولة الوحيدة، ذات النفوذ الاقتصادي وحجم الصادرات المُنافِس لنظيره الأميركي، التي يُمكن لها تغيير قواعد اللعبة وتقويض الدولار، ولديها ما يكفي من المال للتعامُل مع ارتفاع تكاليف المعاملات الناتجة عن تجنُّب التعامل بالدولار.
هل يُمكن لليوان أن يحلّ محلَّ الدولار؟
يُمكن لليوان أوالرنمينبي سحب البساط من تحت الدولار واحتلال الصَّدارة كأكبر عملة احتياطية في العالم فقط إذا أصبحت الصين أقوى اقتصاد في العالم وحصلت على إجماع من القوى الاقتصادية العالمية.
وهناك اعتبارات أخرى، فحجم التجارة ليس السبب الوحيد الذي يقف وراء هيمنة الدولار، فقد ساهمت شفافية الأسواق المالية في أميركا واستقرار سياستها النقدية في غرس الثقة وتمكين الدولار من التفوُّق على باقي العملات، ويعتبر الاستقرار أحد المزايا التي يقدِّمها الدولار للمستوردين والمصدرين.
ما الذي يُمكن استنتاجه؟
يعتبر اتِّجاه كل من الصين، روسيا، تركيا وإيران للتعامل بعملاتها المحلية خياراً صائباً لا سيَّما في ظلّ العقوبات والقرارات الأميركية التي أصبحت فُجائيّة بعد تولِّي ترامب رئاسة أميركا والذي يهدف بالدرجة الأولى من خلال قراراته إلى عزل تلك الدول.
لذلك مهَّدت تلك الدول الطريق لتقليل الاعتماد على الدولار وستصبح سنوات هذه العملة الخضراء، كأقوى عملة احتياط عالمية، معدودة إن استمرَّت الإدارة الأميركية باستخدامها العنيف للعقوبات والرسوم.
لكن هل يُعقل أن ترامب يجهل ذلك، أم أنّه فعلاً يقصد، فمن المعلوم أنّه عندما تصبح عملة بلد ما أكبر عملة احتياط عالمية فسيتحمَّل ذلك البلد عجزاً في الحساب الجاري نظراً لاعتماد باقي دول العالم على عملته التي تخرج منه باستمرار.
ولا ننسى أنّ الدولار قد حلّ محلّ الجنيه الإسترليني كأقوى عملة احتياط عالمية في عشرينيات القرن الماضي بعد معاناة بريطانيا من عجز كبير في الحساب الجاري، والآن أميركا تعاني منه، وقد أعلن ترامب صراحة أنّه يرغب بأن يُحقِّق بلده فائضاً كبيراً في الميزان التجاري والحساب الجاري من أجل كسب رضا الشعب الأميركي، وبالتالي فهو يدفع العديد من الدول لوقف تعاملها بالدولار من خلال قراراته حتى يستعيد ميزان المدفوعات الأميركي عافيته.
لكن ترامب يقف الآن في مفترق طرق ويجب عليه أن يختار، إمّا الاستمرار في حربه التجارية وتحمُّل القيمة المرتفعة للدولار الناتجة عن ذلك، وإمّا وقف ارتفاع قيمة الدولار بغية تعزيز تنافسية الصادرات الأميركية من خلال تراجعه عن سياسة حافة الهاوية في حربه التجارية هذه، لأنّه لن يستطيع فعل الأمرين معاً، أي شنّ حرب تجارية وخفض قيمة الدولار معاً، أو مثلاً تحقيق فائض كبير في الحساب الجاري وبقاء الدولار كأقوى عملة احتياطية عالمية في آن واحد.