أن نسمع بالعمل الأسود أو السوق السوداء في معظم بلدان العالم أمر شبه عادي، فهذا النشاط لا يقتصر على حزب وتوجه اقتصادي محدد، فأي نشاط تجاري يخرج عن إطار القانون الذي رسمته الحكومة يعد غير قانوني، ففي السويد ودول أوروبية أخرى متقدمة نجد أن ممارسة العمل بدون دفع الضريبة عملاً أسود.
ومع ذلك يبقى الأمر نسبياً، فالسوق السوداء في بلدان مستقرة تحت نظر الحكومة والسلطات لها آثار محدودة وتبقى مضبوطة في أبعاد معينة. أما السوق السوداء في بلدان الصراع والحروب والأزمات فمختلف تماماً، والدليل ما يجري في سورية.
وتشير السوق السوداء إلى أي نشاط تجاري غير رسمي بعيد عن رقابة السلطات المحلية والدولية. وإما أن تكون الأسعار فيها أقل من السوق الرسمية بسبب حظرها من قبل الدولة والسوق الرسمية وعدم خضوعها للضريبة مثل بيع سلع وخدمات مسروقة، أو محظورة مثل الأسلحة والمخدرات أو مهربة أو مقلّدة، أو أن تكون أسعارها أعلى من السوق الرسمية بسبب صعوبة الحصول على السلع أو ندرتها أو لصعوبات أخرى جراء الحرب والصراع وعدم الاستقرار وما شابه.
سوق ما قبل الثورة
راجت السوق السوداء في سورية خلال العقود التي سبقت الثورة في عام 2011، مع فرض الحكومة قوانين حظر استيراد قائمة كبيرة من المواد والسلع وفق توجهاتها وسياساتها الاشتراكية، فظهرت شبكة من التجار ورغبة عارمة في التكسب لعدة أسباب، بينها عدم توفر السلعة واستغلال الفرق بالسعر والجودة.
ففي الوقت الذي كان يبلغ سعر لتر البنزين في سورية عام 2004 نحو 24 ليرة، كان السعر في لبنان 36 ليرة سورية، والأردن 40، وتركيا 100 ليرة، وهو ما ساهم في ازدهار تهريب المحروقات من سورية إلى دول الجوار للاستفادة من فرق السعر.
وبالرغم من أن بيع الدولار في السوق المحلية السورية كان ممنوعاً بسبب احتكار الحكومة للنشاط المصرفي والتأميني وعدم السماح للقطاع الخاص بإنشاء مؤسسات مصرفية وتأمينية ومكاتب صرافة خاصة، فقد نشط العمل بسوق القطع الأجنبي داخل البلاد من قبل التجار بشكل غير رسمي، وساهم بشكل طفيف في التأثير على سعر صرف الليرة، حتى صدور القرار 24 لعام 2006 والذي أحدث مؤسسات تقوم بمزاولة أعمال الصرافة.
والأمر مشابه بالنسبة للذهب، فبينما كان استيراد وتصدير الذهب في سورية محظوراً هو الآخر، اعتاد تجار الذهب على سماع أخبار عن إمساك تاجر على الحدود لدى محاولته تهريب ذهب من الداخل للخارج أو العكس.
كذلك الأمر في سوق الملابس، فقد انتعشت فكرة "تاجر الشنطة" الذي يبيع ملابس ومواد يشتريها من الخارج بنفسه، كما اشتهرت بلدات على الحدود مثل مضايا في ريف دمشق تبيع ملابس تركية مُهربة عن طريق لبنان.
الأكيد والثابت أن المتعامل في السوق السوداء يهدف لإحراز ربح وفير جراء عملية غير مشروعة يقوم بها داخل البلد.
وتساهم إجراءات وسياسات الحكومة في رواج وانتعاش الممارسات في هذه السوق والمتعاملين فيها، فإغلاق الحكومة لحدودها أمام المنتج الأجنبي ومنع استيراد المنتجات لحماية المنتج المحلي والانعزال داخليا بتطبيق سياسات تجارية حمائية وإحلال الواردات وتطبيق إجراءات صارمة ضد المخالفين، يسمح في ظهور البديل من شبكات تجار وفساد تجمعهم السوق السوداء.
مهدت تلك الفترة التي عاشتها سورية فرصة مهمة للحكومة لامتلاك تجربة كبيرة عبر تطبيق سياسات الحظر والمنع وإجراءات العقوبة، ونجح الإجراء بعد الثورة حتى مع ظروف غاية في الصعوبة، وسمح للسكان أيضاً بإيجاد طرق وآليات لتأمين السلع والمواد المحظورة وغير المتوفرة.
فرصة للثراء الفاحش
بعد الثورة السورية التي اندلعت في العام 2011 وتطبيق عقوبات عربية وأجنبية على سورية وتشظي البلاد جغرافياً وعدم قدرة المركز (دمشق) على التحكم بالأطراف، صار لزاما على حكومة الأسد إعادة النهج الاشتراكي الذي كان سابقاً عبر التحكم بالاقتصاد وفرض إجراءات صارمة ضد المخالفين واحتكار استيراد السلع الأساسية والخدمات والعودة للعب دور الأب للمجتمع.
إلا أن الظرف مختلف تماماً بعد الثورة، إذ باتت الحكومة شبه مُفلسة بسبب استنزاف مواردها المالية والبشرية على الآلة العسكرية وخروج الكثير من موارد البلد عن سيطرتها، والعقوبات المفروضة التي صعبت من مهمة إيصال السلع لسورية واتباع طرق ملتوية لإيصالها. مهّدت هذه البيئة المضطربة لظهور السوق السوداء بوجه آخر وانتشار شبكات تجار واستشراء الفساد والتربح الفاحش على حساب الأحوال المعيشية السيئة.
بنظرة أكثر عمقاً على التعاملات في هذه السوق وحالة التربح الفاحش للمتعاملين فيها، يبلغ سعر كيلوغرام الأرز الوسطي في العالم حتى نهاية 2019 نحو 0.43 سنت، بحسب موقع index mundi، وبإضافة كلفة النقل والشحن والتفريغ والرسوم البالغة بالحد الأعلى 40 دولارا للطن الواحد، ترتفع كلفة كيلوغرام الأرز إلى 0.47 سنت، أي 203 ليرات بالسعر الرسمي للبنك المركزي (الدولار بـ434 ليرة)، و470 ليرة بسعر السوق السوداء (الدولار بألف ليرة)، بينما يبلغ سعر كيلوغرام الأرز الإسباني في السوق اليوم 760 ليرة، وهي التسعيرة الرائجة بالسوق تبعاً لتسعير الدولار بالسوق السوداء.
فإذا قدم التاجر طلب إجازة استيراد 1000 طن من الأرز وأخذ تمويلا من البنك المركزي 470 ألف دولار على سعر 434 ليرة لتمويل عملية الاستيراد، سيعمد التاجر أو المؤسسة المخوّلة باستيراد المادة، وحتماً سيكون من المقربين للنظام، لبيع الدولارات في السوق السوداء لاستغلال الهوّة بين سعر المصرف المركزي وسعر السوق والحصول على ربح بمقدار 263 مليون ليرة من الفرق.
ولو بيع كيلوغرام الأرز للتجار بـ290 ليرة بالحد الأدنى (الفرق بين كلفة استيراد كيلوغرام الأرز متضمنة تكاليف النقل والشحن 470 ليرة وسعر المبيع في السوق 760 ليرة)، سيضيف ربحاً بمقدار 290 مليون ليرة للكمية الإجمالية. ليصبح إجمالي الأرباح نحو 553 مليون ليرة جراء استيراد ألف طن من الأرز فقط.
وتقاس هذه الحسبة على باقي المواد الأساسية والمستوردات الأخرى. مع الإشارة إلى حصرية التعاملات بالليرة وحجم شبكة الفساد التي تدخل للاستفادة من هذه التعاملات.
مع الإشارة أيضاً لحجم العبء المضاف على كاهل المواطن جراء السعر المرتفع، والتفاوت الطبقي الذي سيحصل بين تاجر يحصل على ربح فاحش يمكنه من شراء الأصول ومراكمة ثروة، ومواطن يبلغ متوسط دخله الشهري 55 ألف ليرة بالكاد يكون قادرا على شراء المستلزمات المعيشية الأساسية.
مثال آخر عن تعاملات السوق السوداء والتربح فيها لكن من زاوية أخرى؛ شكلت سياسة الحصار التي فرضها النظام على مناطق المعارضة لإجبار الأهالي والثوار على الاستسلام والعودة لبيت الطاعة، فرصة للبعض للعب دور وساطة بين المعارضة والنظام، كما حصل مع محيي الدين المنفوش، وهو صاحب شركة "مراعي الدمشقية"، في الغوطة الشرقية، حيث عمل في تجارة المواد الغذائية والصرافة والأنقاض والعلف وصناعة الألبان والأجبان والعقارات من خلال عمله كوسيط بين الغوطة الشرقية المحاصرة والنظام من خلال معبر الوافدين، قرب دوما، بفضل علاقاته مع مسؤولي النظام خلال الفترة بين 2013 – 2018، حيث كان يدخل يوميا قافلتين تحملان مواد غذائية مقابل دفع إتاوة 2000 ليرة على كل كيلوغرام لحواجز النظام.
وهو ما ساهم في رفع الأسعار على التجار الصغار والمستهلك أضعافا مضاعفة. ويُشار إلى أن المنفوش أسس معملا في تركيا لصناعة وتجارة منتجات الحليب وله شركة في سلوفاكيا تعمل في الإنتاج وتجارة البضائع.
شكلت السوق السوداء في سورية ضمن بيئة الحرب وعدم الاستقرار خلال السنوات الماضية ولا تزال، وحشاً لا يأبه سوى بمراكمة الثروة بيد فئة قليلة من الأفراد المتنفذين لدى النظام والمليشيات، ولا يأبه لو تسببت ممارساته بارتفاع غير عادي في أسعار السلع الأساسية ولا لوصول نسبة الفقر في سورية لـ85% من السكان جراء ارتفاع الأسعار وعدم قدرة الأسر على اللحاق بتكاليف المعيشة.
والملفت للانتباه أن سياسة تثبيت سعر صرف الليرة أمام الدولار من قبل البنك المركزي وفي ظل الظروف الحالية فتحت الباب قدُماً للتكسب الفاحش واقتناص الفرص وتنامي شبكات الفساد، وساهمت في رفع أسعار السلع والخدمات.