في مثل هذا اليوم وقبل 6 سنوات خرج آلاف المصريين للشوارع والميادين مطالبين بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وفي 18 يوماً فقط أسقطوا حكماً استمر 30 عاماً، ساعتها كنت تلحظ بريق الأمل يشع في عيون كل الواقفين في ميدان التحرير رمز الثورة المصرية، يحدوهم الأمل في مستقبل أفضل لهم ولأولادهم.
وبعد نجاح ثورتهم العظيمة تصور المصريون أن طريقهم نحو بناء حياة اقتصادية ومعيشية وسياسية أفضل قد بدأ، وأن مرحلة الاستفادة من ثروات بلادهم قد حلت، وأن الفساد المالي المستشري في كل ركن من أركان مؤسسات البلاد في طريقه للاختفاء، وأن ثروات مصر المنهوبة في الخارج ستكفي لتغطية احتياجات الموازنة العامة لسنوات في حال عودتها.
تصوروا أن الثورة ستعيد مليارات مبارك ورموز نظامه من بنوك سويسرا وبريطانيا وأوروبا، وأن الثروات النفطية والتعدينية من غاز ونفط وذهب باتت للمصريين وليس لغيرهم، وأن جريمة تصدير الغاز المصري لإسرائيل ستتوقف وسيحاكم الواقفين خلفها، وأن طلاقاً نهائياً سيتم بين رجال الأعمال والسلطة الحاكمة، وأن الزواج الكاثوليكي الذي يربط المال بالسياسة قد انتهى بسجن إمبراطور الحديد والرجل القوي في الحزب الوطني الحاكم أحمد عز وهروب حسين سالم مهندس صفقة تصدير الغاز المصري للكيان الصهيوني وأحد أبرز المقربين من مبارك.
ساعتها حلم المصريون بأن عصر تمرير القوانين لصالح حفنة قليلة من كبار المستثمرين ورجال الصناعة قد ولى، وأن عصر الاحتكارات لسلع رئيسية مثل الأغذية والإسمنت والأسمدة بات صفحة في التاريخ، وأن سطو الأثرياء على دعم الوقود المخصص للفقراء بالموازنة العامة للدولة بات من الماضي.
ساعتها، أيضاً تصور الشباب أن عصراً جديداً في انتظارهم، وأن وظائف المؤسسات الحكومية باتت مفتوحة أمام الجميع، وأن الالتحاق بأجهزة، قيل لسنوات، إنها حساسة مثل الكليات العسكرية والشرطة بات متاحاً، وأن الالتحاق بسلك القضاة والنيابة العامة والخارجية والأجهزة السيادية وغيرها لم يعد قاصراً على أبناء الطبقة الغنية أو الفئة المحتكرة لمثل هذه الوظائف لسنوات طويلة.
ساعتها أيضا، تخيل الفلاح أن نظاما سياسيا جديداً قد ولد من رحم الثورة التي شارك فيها كل أطياف المجتمع، نظاماً سيوفر له غذاء رخيصاً خاليا من الأمراض والأوبئة المسرطنة ورعاية صحية وتأمينية ومعاش مناسب، نظاماً يساعده على كسب قوت يومه وإطعام أولاده دون انتهاك لآدميته أو الإصابة بأمراض خطيرة مثل السرطان والفشل الكلوي وفيروس الكبد الوبائي.
تخيل الفقير أن هذا النظام الجيد القادم من ميدان التحرير سيوفر له المأكل والمشرب والحياة الكريمة دون ذل السؤال أو التسول من الغير أو الجري وراء هبات وراء رجال الأعمال وصدقات الجمعيات الأهلية والخيرية.
تصور المصدرون أن منتجاتهم ستغزو العالم، ولمَ لا ومصر العظيمة قامت بثورة شهد الجميع برقيها ونزاهتها، وتصور العاملون في الخارج أن بلدهم أحق بأموالهم وشقاء عمرهم حتى يساعدوا الحكومة في إقامة حياه أفضل لهم ولأولادهم.
تخيل المصريون أن أمراضاً اجتماعية خطيرة مثل الفقر والبطالة والفساد والتمييز الطبقي والمحسوبية والبيروقراطية والرشى ستختفي للأبد، وأن السياحة ستنتعش، وأن تحويلات المغتربين ستتضاعف، وأن إيرادات قناة السويس ستذهب للموازنة العامة دون بعثرتها على مشروعات دعائية أو لا يحتاجها الاقتصاد في هذه الفترة.
لكن بعد 6 سنوات استيقظ المصريون على كابوس مزعج، فقد توغل الفساد، وشهدت الأسواق ارتفاعات قياسية في الأسعار لا ترحم ملايين الفقراء، واختفت الطبقة المتوسطة أو كادت أن تختفي، وتفاقمت مشكلة الديون الخارجية والداخلية، وانهارت قيمة العملة المحلية، وتآكلت المدخرات المحلية، وهربت الاستثمارات المحلية قبل الأجنبية، وتراجعت موارد البلاد من النقد الأجنبي خاصة من قطاعات رئيسية كالسياحة والصادرات.
لقد استيقظ الجميع على واقع مر لا يعرفون متى سيختفي أو على الأقل تصحيحه، وهل التغيير يتطلب ثورة جديدة بيضاء جديدة تشبه ثورة 25 يناير العظيمة، أم أنها بحاجة لثورة جياع لا تبقي ولا تذر؟
حفظ الله مصر من الثورات الأخيرة لأنها تأكل الأخضر واليابس.