تفاقم معاناة السودانيين... "التحرير الاقتصادي" يغذي احتكار الأسواق

09 ابريل 2019
ارتفاع الأسعار وسط غياب الرقابة (Getty)
+ الخط -
عادت الانتقادات التي تطاول سياسة التحرير الاقتصادي التي تطبقها الحكومات السودانية منذ العام 1992، إلى الواجهة مجدداً، مع تطور الحراك في الشارع من جهة، وتفاقم فوضى الأسواق وانفلات الأسعار من جهة أخرى. ويكاد الاقتصاديون يجمعون على أن هذه السياسية ألحقت الكثير من الأضرار بالاقتصاد السوداني.

ورغم مطالبة العديد منهم الحكومة بمراجعة هذه السياسة، إلا أن الأخيرة لم تصدر أي رد فعل رسمي حول هذه الدعوات. وتمثلت أبرز تبعات سياسة التحرير في خروج الدولة كلياً من السوق. وفي حين يؤيد بعض الخبراء هذا التوجه، إلا أنه يعتبر أن غياب الرقابة حوّل هذه الخطوة إلى إجراء عبثي عرّض المواطنين للاحتكار.

وكانت وزارة المالية نفذت حملات لضبط الأسواق ومراقبة الأسعار، بيد أنها لم تستمر كثيراً، ولم تؤد الغرض المأمول منها، بسبب عدم القدرة على تغطية جميع الأسواق ومسحها.

ويقر مصدر في وزارة المالية، في حديث مع "العربي الجديد" بهذه المشكلة، معتبراً أن الحملات الرقابية تحتاج إلى تكاليف باهظة تتمثل في تأمين وسائل نقل كافية وكادر بشري مؤهل لتغطية مئات الأسواق، وآلاف المتاجر.

موجات الغلاء

وتشهد الأسواق السودانية موجة من الغلاء وارتفاع الأسعار شملت كل السلع من دون استثناء. كان آخرها ارتفاع جوال السكر زنة 50 كيلوغراماً من 1300 جنيه إلى 1700 جنيه، فيما تشهد السلع الاستهلاكية الأخرى تذبذباً في التسعيرة بحيث تباع بسعر مختلف بين يوم وليلة وبين متجر وآخر، إضافة إلى وجود سعرين للبيع "شيك – كاش” بسبب استمرار نقص الأوراق النقدية بالقطاع المصرفي وشح السيولة.

وسيطرت فئة قليلة من التجار والنافذين على مفاصل العمل التجاري، وتفشت الممارسات الاحتكارية في السلع الرئيسية مثل السكر ومواد البناء ونسبة لا يستهان بها من قطاعات الاستيراد والتصدير.

ويقول الخبير الاقتصادي عبد الله الرمادي لـ "العربي الجديد" إن سياسات التحرير الاقتصادي هي السبب في كل ما يعانيه الاقتصاد من ترد طوال السنوات الماضية. ويدعو الرمادي الحكومة إلى إلغاء سياسة التحرير كلياً، في حال كانت جادة في معالجة المشكلات الهيكلية، مؤكداً أن ذلك يعتبر أول خطوة في بداية طريق حل الأزمات الاقتصادية.

ويبين أن مشكلة الاقتصاد السوداني بدأت مع الخصخصة، حين فقدت الحكومة مؤسسات منتجة وحيوية مثل الخطوط الجوية السودانية والخطوط البحرية، والسكك الحديدية، والنقل النهري، وحل التعاونيات التي كانت توفر السلع للمستهلكين بأسعار زهيدة، وتمكين فئات قليلة من التجار من السيطرة على المرافق والتحكم في الأسعار.

إلا أن رئيس اللجنة الاقتصادية ببرلمان ولاية الخرطوم عبد الله سيد أحمد، يرى أن الخلل ليس بالضرورة مرتبطا بسياسة التحرير، بقدر ما يرجع لعوامل أخرى منها ضعف الرقابة وجشع التجار واستغلالهم لخروج الدولة من السوق في وضع تسعيرة تخضع لأمزجتهم.

ويشرح سيد أحمد لـ "العربي الجديد" أن هذه الفوضى تحتاج الى تكثيف الرقابة وإلزام المحال التجارية بوضع الأسعار على السلع، مع التوسع في إنشاء مراكز البيع المخفض، وتنشيط التعاونيات في الأحياء ومواقع العمل لتوفير السلع الاستهلاكية للمواطنين بسعر المصنع.

نتائج كارثية

ولكن رئيس جمعية حماية المستهلك نصر الدين شلقامي يتهم وزارة التجارة بالتقاعس عن دورها في تطبيق القانون على المخالفين، مشيراً إلى أن القانون يشترط عند زيادة سعر أي سلعة مخاطبة الوزارة والحصول على موافقة مسبقة منها قبل تطبيق الزيادة، وهو ما لا يحدث.

وفي الاتجاه ذاته، يصف الخبير الاقتصادي أحمد مالك سياسة التحرير الاقتصادي بالسياسة المتطرفة، معتبراََ أنها بنيت وفق "روشتة" صندوق النقد الدولي التي تركز على التحرير الشامل والخصخصة وتخلي الحكومة عن المؤسسات العامة وتحرير العملة وتخفيض الأجور والإنفاق الحكومي.

ويؤكد مالك أن تطبيق هذه السياسة أدى إلى نتائج كارثية في المجال الاقتصادي وزاد من العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات، إضافة إلى ارتفاع معدل الوارد وتراجع معدل الصادر، مما نتج منه انفتاح في السوق واختفاء القدرة التنافسية للسلع المحلية.

ويلفت مالك إلى ضرر كبير لحق بالمشروعات الزراعية الكبرى بسبب سياسة التحرير، منها مشروع الجزيرة والمناقل والذي توقف، مع بيع السكة الحديد والمخازن التابعة للمشروع وتسريح العمالة...

في حين أن وكيل وزارة المالية الأسبق الشيخ المك يعتبر أن سياسة التحرير الاقتصادي أفرزت أوضاعًا اجتماعية سيئة بالرغم من مجهود الدولة في تقليل آثارها في فترات سابقة، مع توسيع نظام التأمين الصحي والعلاج المجاني للحوادث والعمليات العاجلة، ودعم استهلاك الأسر الفقيرة للكهرباء.

ويدعو المك الحكومة إلى تبني سياسات جديدة لمواصلة الدعم الاجتماعي والدعم المباشر للأسر الفقيرة بإعطائها منحًا مباشرة.

فشل التجربة

ويقول الخبير أحمد قنديل لـ "العربي الجديد” إنه لا توجد سياسة تحرير اقتصادي مطلقة كما يحدث في السودان حتى في الدول الغنية، وإنما توجد قيود ومراجعات من وقت لآخر.

ويلفت إلى أن سياسة التحرير المطلق فتحت باب الاستيراد على مصراعيه في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، داعيًا إلى معالجة آثارها التي تتمثل في ارتفاع نسبة التضخم وسعر الدولار والسلع إضافة إلى وجود فجوة في الميزان التجاري.

ويرى الاقتصادي حسن ساتي في حديثه مع "العربي الجديد” أن التحرير السياسي والاقتصادي وجهان لعملة واحدة لتحقيق التقدم في كل مجالات المجتمع المدني في حال أُسس على نظم سليمة.

ويؤكد فشل سياسة التحرير في ظل احتكار السلطة والثروة، ويصفها بالسياسة المزيفة كونها تصب في صالح الطبقات العليا حصراً، لافتاً إلى أن التجربة السودانية خلقت تدهورًا وركودًا في الاقتصاد، إلى جانب ارتفاع نسبة التضخم.

ويقول ساتي وجود عدة عوامل صاحبت سياسة تحرير الاقتصاد السوداني، وأثرت سلباً على النمو في المرحلة التي سبقت تطبيق سياسة التحرير، وتتمثل هذه العوامل في توسع حالة عدم الاستقرار السياسي التي تميّزت بها مرحلة ما قبل تطبيق سياسة التحرير.

كما يعتبر الاستقرار السياسي ضرورياً لعمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية "إذ إن الاستقرار يزيد من الثقة بالاقتصاد، ويجعل الخطط الطويلة المدى ممكنة التطبيق، وبالتالي تأخذ برامج التنمية حظها لكي يتم تنفيذها وفقاً لرؤية واحدة وبهذا يمكن أن يتحقق النمو الاقتصادي المستدام".

ويقول عبد الرحيم حمدي، الذي تولّى وزارة المالية في السودان خلال عهد الإنقاذ، وهو من قام بتطبيق سياسة تحرير الاقتصاد منذ التسعينيات، إن إيجابيات السياسة معروفة وظاهرة لكل الناس، "أما الذي يريد أن ينتقد فلينتقد، لأنك مهما عملت فلن ترضي كل الناس".

ويعتبر حمدي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن المؤسسات المالية الإقليمية والدولية بدأت في تطبيع علاقاتها مع السودان، بعدما تأكدت من جدية الحكومة في تطبيق سياسات التحرير الاقتصادي.

ويلفت إلى أن الحكومة أعلنت أخيرًا سلسلة من الإجراءات المالية والاقتصادية التي تدعم سياسات التحرير الاقتصادي في السودان، من أجل استقطاب الاستثمارات المحلية والأجنبية.

ويقول إن "هذه الإنجازات حركت الاقتصاد السوداني منذ مطلع التسعينيات، إذ أن حركة الاقتصاد كانت في اتجاه سالب، ومن خلال التحرير الاقتصادي تم عكس اتجاه النمو، وتحرك الاقتصاد بقوة هائلة جداً في السنوات الأولى من التطبيق". 

المساهمون