يصفه النقّاد بـ"مجوّع الكوكب" أو بمغتصب الدول الفقيرة، إنه صندوق النقد الدولي، الذي قال عنه جوزف ستيغليتز الحائز جائزة نوبل للاقتصاد إن "الصندوق ليس مهتماً بالتنمية ولا بانتشال الدول من الفقر، بل بمصالح المؤسسات المالية".
هو الصندوق ذاته التي وجهت المهاجرة الغينية الأصل نفيساتو ديالو العاملة في فندق "سوفياتيل" في نيويورك تهمة الاغتصاب ضد مديره دومينيك ستراوس كان، عام 2011، وعلّقت صحيفة الإندبندنت على الحادثة قائلة "لا بد من أنه رأى في هذه السيدة بلداً فقيراً في حاجة إلى مساعدة مالية".
الأردن "فخر" الصندوق
دول كثيرة وقعت في شراك سياسات الصندوق المالية، من المكسيك عام 1982 وإندونيسيا وتايلند عام 1997 والأرجنتين 1999 واليونان 2010 وغانا 2015، إلى مصر وتونس وغيرها.
جميع هذه الدول عانت، وتعاني، من شروط وإملاءات برنامج "التكيف الهيكلي" الذي يفرضه الصندوق لقاء الحصول على الأموال، ويتضمن سياسات تقشف، وسياسة نقدية متشددة، وإعادة هيكلة وخصخصة لمؤسسات القطاع العام، وفتح الأسواق الوطنية والموارد للمستثمرين الدوليين والشركات المتعددة الجنسيات.
اقــرأ أيضاً
انتقلت الأوضاع في تلك الدول من سيئ إلى أسوأ، وخرج الشعب إلى الشوارع مندداً بالحكومة وإجراءاتها الاقتصادية.
للأردن نصيب من شراك ذلك الصندوق خلال العقدين الماضيين، ويفتخر الأخير بما يصفها "إنجازات" هناك، إذ دعم الصندوق الأردن بهدف إعادة الاستقرار للاقتصاد الكلي عبر برامج للتسهيل امتدت خلال الفترة بين عامَي 1989 و2004، وبرنامج الاستعداد الائتماني 2012-2015 وآخرها برنامج التسهيل الائتماني 2016-2019.
الواقع أن سياسات الصندوق وقروضه للحكومات الأردنية المتعاقبة لم تحقق أهداف برامج الصندوق التي تم تطبيقها لغرض زيادة معدلات النمو وتخفيض التضخم ومعالجة الاختلالات الهيكلية، بل زادت الأوضاع الاقتصادية سواءً وأوصلت البلاد إلى لحظة خروج الناس إلى الشارع تنديداً بتدهور الأوضاع المعيشية، وأدت إلى إطاحة حكومة هاني الملقي وتكليف العاهل الأردني لعمر الرزاز بتشكيل حكومة جديدة.
في بداية العام، رفعت الحكومة ضريبة المبيعات إلى 10% على 164 سلعة شملت الألبان والخضروات والفواكه وضمّت سلعاً جديدة للضريبة، وتضاعف سعر الخبز وارتفعت أسعار الوقود 5 مرات والكهرباء بنسبة 55%، وأعلنت نيّتها فرض مشروع ضريبة جديد يتضمن توسيع قاعدة شرائح ضريبة الدخل من 3 شرائح بين 7% و20%، إلى 5 شرائح بين 5% و22%، وإدخال شرائح جديدة كانت معفاة.
ووفقاً للإحصاءات الرسمية، وصل معدل الدين العام إلى 94% من الناتج المحلي الإجمالي، وبلغ معدل النمو عام 2017 رقماً متواضعاً عند 2%، وبقي معدل الفقر عند نسبة مرتفعة بالغاً 20%، والبطالة 18.5% بنسبة مرتفعة، وبين صفوف الشباب 25%.
اقــرأ أيضاً
تحويل المِحنة إلى منحة
حوت رسالة التكليف لرئيس الحكومة عمر الرزاز من العاهل الأردني، نقاطاً بارزة لرفض سياسات الصندوق وتجميد برامجه المعمول فيها. يشير الملك "التحدي الرئيس الذي يقف في وجه تحقيق أحلام وطموحات الشباب الأردني هو تباطؤ النمو الاقتصادي، وما نجم عنه من تراجع في فرص العمل خاصة لدى الشباب. وعليه، فإن أولوية حكومتكم يجب أن تكون إطلاق طاقات الاقتصاد الأردني وتحفيزه ليستعيد إمكانيته على النمو والمنافسة وتوفير فرص العمل".
إذاً، كيف يمكن لتوصية الملك أن تُطبّق! وسط أكبر عائق في البلاد هو صندوق النقد الدولي الذي يشترط أن يكون له يداً في إدارة الاقتصاد ومواردها المالية، وتطبيق روشتة التحرر الاقتصادي التي على أساسها يتم رفع يد الحكومة عن آلية دعم سلع وخدمات أساسية من ماء وكهرباء ومواد طاقة لتزيد أسعار تلك المواد، إضافة إلى معظم السلع والخدمات التي تعتمد بشكل مباشر أو غير مباشر على تلك الحوامل، وتفتح الأسواق المحلية للشركات الدولية لينصهر الاقتصاد الوطني في منظومة الاقتصاد العالمي دون مراعاة لاستعداده الهيكلي وفائدته من هذا الانفتاح، وهو ما قد يؤدي بأضرار بالغة على المنتجات المحلية فيؤدي إلى إفلاس الشركات لعدم قدرتها على المنافسة، فضلا عن تعويم العملة الوطنية واتباع سياسة مالية انكماشية بغرض ضبط الاختلالات في المالية العامة.
البداية تكمن من قراءة حكومة الرزاز للمشهد الاقتصادي العام بشكل صحيح وأن يثق بقدرته على إيجاد مخرج للأزمة بالاعتماد على الخبرات الوطنية المتوفرة من نقابات ومؤسسات مالية وخبراء ومستثمرين، ومن ثم رسم مسار الأزمة الاقتصادية الخاص وفق مقتضيات الظروف الداخلية والخارجية التي تمر به الأردن بعيداً من صندوق النقد الدولي، ليكون بالفعل "مفترق طرق" بين الحكومة وصندوق النقد، فمسألة تقرير مصير الدولة الاقتصادي والعمل على حماية المصالح الوطنية يجب أن يكون من أولويات الرزاز وإلا سيكون صناعة القرار الاقتصادي في أيدي المؤسسات الدولية.
وعلى حكومة الرزاز أن تضع رفاهية شعبها قبل مصالحها المالية ومصالح الدول والمؤسسات المُقرضة، وتحرص ألا يتحمل الفقراء تكاليف أي إجراءات اقتصادية، وإلا يفقد الناس الثقة برئيس الحكومة وبسياساتها، وتعاد الكُرة للشارع من جديد ليقول كلمته.
جسر الهوة بين النقابات والحكومة يمكن أن يكون عبر تشكيل هيئة وطنية يترأسها رئيس الحكومة هدفها إخراج البلاد من الأزمة تضم مجلس عمل اقتصادي وطني يضع خطة عمل استراتيجية وبرنامج إنعاش اقتصادي يقوم على سياسات اقتصادية واهية لمواجهة الظروف والتحديات المأزومة التي تتعرض لها البلاد، بحيث يتألف المجلس من كبار المسؤولين بمن فيهم رئيس الحكومة ورؤساء المؤسسات الحكومية وممثلين عن النقابات والشركات والمصرفيين ورجال أعمال وخبراء ليوضع الجميع أمام مسؤولية الظرف الراهن.
يتحتم على البرنامج الاقتصادي أن يعكس نصائح وتوصيات صندوق النقد بحيث يتم حقن الاقتصاد بإجراءات تحفيزية توسعية عبر زيادة الإنفاق الحكومي لتحفيز الاقتصاد ودفع الطلب المحلي، وبالتالي تحريك معدلات النمو ومنع الوقوع في فخ الركود الاقتصادي.
ومن الإجراءات التي يمكن اتخاذها أيضاً ترتيب سياسات مناخ العمل ليكون وفق المعايير العالمية الجاذبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة، وتطوير سوق الأسهم والسندات المحلي لتعزيز الثقة ببنية الاقتصاد ليكون حافزا للشركات على الاستثمار في بيئة العمل المحلية، وتشكل التشاركية الاقتصادية فرصة ثمينة للأردن يمكن البدء بها عبر عقود الاستثمار التشاركية (بناء، تشغيل، نقل) للقيام باستثمارات في البنية التحتية والخدمات العامة والاستثمارات القومية بحيث تسهم في توطينها في النهاية.
أخيراً، ليس مطلوباً من رئيس الحكومة أن يضمن نجاح خطته الاقتصادية المقبلة، فهو لا يملك عصا سحرية بالمحصلة ولكن المطلوب منه أن يبذل قصارى جهده كي تنجح تلك الخطة ويضع ثقته بالشعب، وألا يستسلم ويسلّم مفاتيح القرار للمؤسسات الدولية التي لا تهتم إلا بمصالحها المالية وآخر همها مصلحة الشعوب.
جميع هذه الدول عانت، وتعاني، من شروط وإملاءات برنامج "التكيف الهيكلي" الذي يفرضه الصندوق لقاء الحصول على الأموال، ويتضمن سياسات تقشف، وسياسة نقدية متشددة، وإعادة هيكلة وخصخصة لمؤسسات القطاع العام، وفتح الأسواق الوطنية والموارد للمستثمرين الدوليين والشركات المتعددة الجنسيات.
انتقلت الأوضاع في تلك الدول من سيئ إلى أسوأ، وخرج الشعب إلى الشوارع مندداً بالحكومة وإجراءاتها الاقتصادية.
للأردن نصيب من شراك ذلك الصندوق خلال العقدين الماضيين، ويفتخر الأخير بما يصفها "إنجازات" هناك، إذ دعم الصندوق الأردن بهدف إعادة الاستقرار للاقتصاد الكلي عبر برامج للتسهيل امتدت خلال الفترة بين عامَي 1989 و2004، وبرنامج الاستعداد الائتماني 2012-2015 وآخرها برنامج التسهيل الائتماني 2016-2019.
الواقع أن سياسات الصندوق وقروضه للحكومات الأردنية المتعاقبة لم تحقق أهداف برامج الصندوق التي تم تطبيقها لغرض زيادة معدلات النمو وتخفيض التضخم ومعالجة الاختلالات الهيكلية، بل زادت الأوضاع الاقتصادية سواءً وأوصلت البلاد إلى لحظة خروج الناس إلى الشارع تنديداً بتدهور الأوضاع المعيشية، وأدت إلى إطاحة حكومة هاني الملقي وتكليف العاهل الأردني لعمر الرزاز بتشكيل حكومة جديدة.
في بداية العام، رفعت الحكومة ضريبة المبيعات إلى 10% على 164 سلعة شملت الألبان والخضروات والفواكه وضمّت سلعاً جديدة للضريبة، وتضاعف سعر الخبز وارتفعت أسعار الوقود 5 مرات والكهرباء بنسبة 55%، وأعلنت نيّتها فرض مشروع ضريبة جديد يتضمن توسيع قاعدة شرائح ضريبة الدخل من 3 شرائح بين 7% و20%، إلى 5 شرائح بين 5% و22%، وإدخال شرائح جديدة كانت معفاة.
ووفقاً للإحصاءات الرسمية، وصل معدل الدين العام إلى 94% من الناتج المحلي الإجمالي، وبلغ معدل النمو عام 2017 رقماً متواضعاً عند 2%، وبقي معدل الفقر عند نسبة مرتفعة بالغاً 20%، والبطالة 18.5% بنسبة مرتفعة، وبين صفوف الشباب 25%.
تحويل المِحنة إلى منحة
حوت رسالة التكليف لرئيس الحكومة عمر الرزاز من العاهل الأردني، نقاطاً بارزة لرفض سياسات الصندوق وتجميد برامجه المعمول فيها. يشير الملك "التحدي الرئيس الذي يقف في وجه تحقيق أحلام وطموحات الشباب الأردني هو تباطؤ النمو الاقتصادي، وما نجم عنه من تراجع في فرص العمل خاصة لدى الشباب. وعليه، فإن أولوية حكومتكم يجب أن تكون إطلاق طاقات الاقتصاد الأردني وتحفيزه ليستعيد إمكانيته على النمو والمنافسة وتوفير فرص العمل".
إذاً، كيف يمكن لتوصية الملك أن تُطبّق! وسط أكبر عائق في البلاد هو صندوق النقد الدولي الذي يشترط أن يكون له يداً في إدارة الاقتصاد ومواردها المالية، وتطبيق روشتة التحرر الاقتصادي التي على أساسها يتم رفع يد الحكومة عن آلية دعم سلع وخدمات أساسية من ماء وكهرباء ومواد طاقة لتزيد أسعار تلك المواد، إضافة إلى معظم السلع والخدمات التي تعتمد بشكل مباشر أو غير مباشر على تلك الحوامل، وتفتح الأسواق المحلية للشركات الدولية لينصهر الاقتصاد الوطني في منظومة الاقتصاد العالمي دون مراعاة لاستعداده الهيكلي وفائدته من هذا الانفتاح، وهو ما قد يؤدي بأضرار بالغة على المنتجات المحلية فيؤدي إلى إفلاس الشركات لعدم قدرتها على المنافسة، فضلا عن تعويم العملة الوطنية واتباع سياسة مالية انكماشية بغرض ضبط الاختلالات في المالية العامة.
البداية تكمن من قراءة حكومة الرزاز للمشهد الاقتصادي العام بشكل صحيح وأن يثق بقدرته على إيجاد مخرج للأزمة بالاعتماد على الخبرات الوطنية المتوفرة من نقابات ومؤسسات مالية وخبراء ومستثمرين، ومن ثم رسم مسار الأزمة الاقتصادية الخاص وفق مقتضيات الظروف الداخلية والخارجية التي تمر به الأردن بعيداً من صندوق النقد الدولي، ليكون بالفعل "مفترق طرق" بين الحكومة وصندوق النقد، فمسألة تقرير مصير الدولة الاقتصادي والعمل على حماية المصالح الوطنية يجب أن يكون من أولويات الرزاز وإلا سيكون صناعة القرار الاقتصادي في أيدي المؤسسات الدولية.
وعلى حكومة الرزاز أن تضع رفاهية شعبها قبل مصالحها المالية ومصالح الدول والمؤسسات المُقرضة، وتحرص ألا يتحمل الفقراء تكاليف أي إجراءات اقتصادية، وإلا يفقد الناس الثقة برئيس الحكومة وبسياساتها، وتعاد الكُرة للشارع من جديد ليقول كلمته.
جسر الهوة بين النقابات والحكومة يمكن أن يكون عبر تشكيل هيئة وطنية يترأسها رئيس الحكومة هدفها إخراج البلاد من الأزمة تضم مجلس عمل اقتصادي وطني يضع خطة عمل استراتيجية وبرنامج إنعاش اقتصادي يقوم على سياسات اقتصادية واهية لمواجهة الظروف والتحديات المأزومة التي تتعرض لها البلاد، بحيث يتألف المجلس من كبار المسؤولين بمن فيهم رئيس الحكومة ورؤساء المؤسسات الحكومية وممثلين عن النقابات والشركات والمصرفيين ورجال أعمال وخبراء ليوضع الجميع أمام مسؤولية الظرف الراهن.
يتحتم على البرنامج الاقتصادي أن يعكس نصائح وتوصيات صندوق النقد بحيث يتم حقن الاقتصاد بإجراءات تحفيزية توسعية عبر زيادة الإنفاق الحكومي لتحفيز الاقتصاد ودفع الطلب المحلي، وبالتالي تحريك معدلات النمو ومنع الوقوع في فخ الركود الاقتصادي.
ومن الإجراءات التي يمكن اتخاذها أيضاً ترتيب سياسات مناخ العمل ليكون وفق المعايير العالمية الجاذبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة، وتطوير سوق الأسهم والسندات المحلي لتعزيز الثقة ببنية الاقتصاد ليكون حافزا للشركات على الاستثمار في بيئة العمل المحلية، وتشكل التشاركية الاقتصادية فرصة ثمينة للأردن يمكن البدء بها عبر عقود الاستثمار التشاركية (بناء، تشغيل، نقل) للقيام باستثمارات في البنية التحتية والخدمات العامة والاستثمارات القومية بحيث تسهم في توطينها في النهاية.
أخيراً، ليس مطلوباً من رئيس الحكومة أن يضمن نجاح خطته الاقتصادية المقبلة، فهو لا يملك عصا سحرية بالمحصلة ولكن المطلوب منه أن يبذل قصارى جهده كي تنجح تلك الخطة ويضع ثقته بالشعب، وألا يستسلم ويسلّم مفاتيح القرار للمؤسسات الدولية التي لا تهتم إلا بمصالحها المالية وآخر همها مصلحة الشعوب.