يوميات اسكتلندا: الأميرة سكوتا والفايد

25 يوليو 2014
رسم تخيلي لبيت قديم في إدنبرا
+ الخط -
"بريطانيا تحتلّ بلادَنا، وعلينا الاستقلال عنها والتحرّر من استعبادها لنا"، قال لي شابٌّ من اسكوتلاندا، فيما نحن نركب القطار من لندن إلى غلاسكو.   

غلاسكو وإدنبرا، المدينتان الأشهر والأجمل في اسكوتلاندا، تحتويان على قدر كبير من المعالم التاريخية الساحرة في عظمتها وقوّتها، وفي احتفائها بمحاربيها الذين دافعوا عنها في وجه الكثير من الغزاة، عبر تماثيل ومنحوتات شديدة التعبير عن القوّة والاستبسال، فضلًا عن معالم أثرية ومتاحف تضمّ عشرات الآلاف من القطع الفنية من عصور متعاقبة.. ويظهر بينها رسومات لبيت يعود تاريخه إلى أكثر من 10 آلاف سنة.

ما يقارب خمس ساعات في القطار السريع. الطريق تكاد لا ترى خلالها غير الخضرة، وبعض التلال الصغيرة. وداخل حجرات القطار أشكال وألوان من البشر، صغاراً وكباراً، نساءً ورجالاً، يبدون على درجة من الاسترخاء، يتواصلون في ما بينهم بحميمية. الشابّ وصديقته يميلان إلى بعضهما بقبلات خفيفة. الفتاة الصينّية التي تبيع الطعام والمشروبات الغازية والكحولية والساخنة أحرقت يدها ولم يعد في إمكانها محاسبتنا فحصلنا على طعام وشراب مجانيّين.

وصلتُ غلاسكو مع المطر، لكن الجوّ لطيف بلا برودة تذكر. في الاستقبال الشاعر الفلسطيني/ السوري/ البريطانيّ الجنسية إياد حياتلة الذي يرفض أن أنزل في فندق، ويصحبني إلى بيته، لأقيم معه ومع أبنائه الثلاثة. ويكون معظم وقتنا للحدث الجاري في غزّة من جهة، وفي سورية من جهة ثانية، وذكريات عن مخيم اليرموك وغيره من المعالم السوريّة والفلسطينية. كأنّه لم يغادر المخيم، رغم مرور 14 عاما على مغادرته الفعلية. وهو سعيد بحصوله على الجنسية البريطانية وجواز سفرها لأنّها ستسمح له بزيارة فلسطين بعد أيّام.

عفوية وتلقائية

الناس في غلاسكو وإدنبرا، في الشارع، وفي الأماكن العامة، تشعر بهم أشدّ حرارة من الذين في لندن، أكثر تفاعلا وألفة مع الغريب. وربّما يشعر الفلسطينيّ بترحيب أكبر هنا، بل قد تجد من يعتذر لك عن تاريخ بريطانيا الاستعماريّ، وعن دورها في إقامة دولة الكيان الصهيوني، وهم لا ينسون أنّ ثمة شارعاً في إدنبرا يحمل اسم بلفور، صاحب الوعد المشؤوم بإقامة هذه دولة إسرائيل.

إلى ذلك، ورغم أنّ المرأة البريطانية عموما متحرّرة ومنفتحة، إلا أنّك تشعر بأنّها، في غلاسكو وإدنبرة، أكثر انفتاحاً وتحرّراً، سواء على صعيد الملابس التي تنطبق عليها مقولة "ما قلّ ودلّ"، أو على مستوى حضورها في الشارع وشكل هذا الحضور، بحيث يغيب الحَرَج عن سلوكها وتصرَفاتها، فتبدو على قدرٍ عالٍ من العفوية والطبيعية، في القطار والباص، كما في المقهى أو على مقاعد الأرصفة والساحات العامة.

الجولة الصباحيّة في غلاسكو تبدأ من حديقة / غابة "بولوك"، الممتدّة على مئات الهكتارات، ومتحفها الشهير، ونهرها وشلالاتها الصغيرة، واصطبلات خيولها الإسكتلندية المعمّرة، والمباني التاريخية العريقة، بطرز معمارية متقاربة في تصميمها، تعود إلى القرون الوسطى. وفي المتحف الذي يضمّ مقتنيات أحد "عظماء" إسكتلندا، تجد من الأعمال الفنية وقطع الأثاث التاريخية ما يغطي أزمنة وحضارات قديمة، كالفرعونية واليونانية والسورية وغيرها. عدا الأعمال الحديثة، إذ تطالعنا في مدخل المتحف أعمال نحتية مهمة للفرنسي أوجست رودان.. أبرزها منحوتته "المفكر".

الشارع المتحف

الكثير من شوارع غلاسكو، وكذلك إدنبرا على نحو أكبر، هي متاحف مفتوحة، لجهة الأبنية الحمراء العتيقة التي تمتدّ مسافات طويلة. فلا تكاد تغمض عينك عن جماليّاتها وأسرار عظمتها. تتّسم بقدر كبير من المتانة والقوّة والرسوخ، ما يجعل انتماءها إلى التاريخ منبعاً لهويّتها المتميّزة. فأنت هنا تمشي في كنف الزمان والمكان، والتاريخ وأثر الإنسان. ويبدو لي أنّها تتفوّق في هذه الجوانب على أيّ مدينة بريطانية أخرى، وعلى الكثير من مدن العالم.

في واحد من أكبر شوارع المدينة، وهو مبلّط ومخصّص للمشاة، حيث يحتشد بالآلاف من البشر، وأمام مبنى قديم ضخم يحمل اسم المناضل الجنوب أفريقي نيلسون مانديلّا، يجلس عازف صغير السنّ، لا يتجاوز العاشرة، ليعزف تحت مسامع العابرين، على غيتاره، أغاني عالمية شهيرة، ويتلقّى في قبّعته ما يتكرّم به من يتجمّعون حوله. وليس بعيدا عنه تقف عازفة عجوز لتقدّم معزوفات عالمية أيضا، ومثلهما يفعل عشرات العازفين، فرقاً وأفراداً، للغاية نفسها.

في جولتي بالباص سألت السائقة العجوز، عبر الزجاج الذي يفصلها عن الركّاب في غرفتها الزجاجية، عن المحطة الأخيرة، فأشارت برأسها من دون أي كلام. بينما قد تجد من يأخذ بيدك، ويمشي معك مسافة، كي يدلّك إلى المكان الذي تقصده. لا فرق في ذلك بين فتاة وشابّ، ذكر أو أنثى. ففي محطة القطار بإدنبرا، كانت فتاة هي دليلي إلى مركز المدينة، وأخذت تشرح لي ما نلاقيه في طريقنا من معالم، بدءا من القلعة التاريخية التي تظهر لنا حين هبوطنا من القطار الآتي من غلاسكو.

غياب العرب

ليس من وجود بارز للعرب والمسلمين هنا، لا منتديات ولا تجمّعات تعلن عنهم، باستثناء المساجد، ومن تراهم في المتاجر الضخمة (المولات). حتّى المساجد في غلاسكو لا يُسمَح لها بإشهار الأذان عبر السمّاعات. وفي رمضان فقط سُمح لأبرز وأقدم مسجد في المدينة بإعلان أذان المغرب والإفطار، الذي يحلّ في العاشرة ليلاً، بفارق ساعة عن لندن تقريباً، الأمر الذي يعني أنّ الصائم هنا سيصوم ما يزيد عن 16 ساعة. ويكون الإفطار بناءً على موعد تعلنه المساجد، ويتوفر على الإنترنت.

هاجس الاستقلال عن بريطانيا يلحّ على كثيرين هنا، في اسكتلندا، حتّى لتشعر بأنّهم يتحدّثون حول "أمّة" وعرق مختلفين عن الإنجليز، وعن بلاد مغتصَبة، بعد ما يزيد على 300 سنة من الوحدة في إطار المملكة المتّحدة (مع ويلز وآيرلندا الشمالية). وينتظرون شهر سبتمبر/ أيلول الآتي، موعد الاستفتاء على الاستقلال، بعد موافقة الحكومة المركزية على إجرائه، على مضض، وبين مؤيّد للانفصال ورافض له، يتوقّع عدم نجاحه.

الطريف في الأمر هو الدور النشط الذي يقوم به الملياردير المصري محمد الفايد (والد دودي الذي مات مع الأميرة ديانا في حادث السير الشهير بباريس 1997). إذ يُعتقد أنّ الفايد يسعى ربّما ليكون أوّل رئيس لإسكتلندا المستقلة، ويُنقل عنه قوله إنّ الإسكتلنديّين "ينحدرون من سلالة الأميرة المصرية سكوتا، ابنة الفرعون شينكريس"، وأنّه قال: "كلّفتُ نحّاتي الرسميّ بوضع تمثال للأميرة الأسطورية سكوتا كرمز للحرية والنهضة الوطنية في اسكتلندا بعد الاستقلال".

دلالات
المساهمون