مصطفى دحلة... حلب في فلسطين

04 اغسطس 2024
صوته وأداؤه وهيئته تذكّر بالمطرب السوري صباح فخري (فيسبوك)
+ الخط -

حين شقّ المطرب الفلسطيني مصطفى دحلة طريقه نحو الاحتراف الغنائي، لم تتح له فرصة ليكون مطرباً أساسياً أو نجم حفلٍ، وإنما بدأ حياته سنّيداً لمطرب أفراح شعبية كان ينشط في مدينة الناصرة والبلدات التي حولها... لكن طغيان موهبته لفت انتباه المستمعين، فاستلوه من بين أفراد الجوقة، وشجعوه على البطولة الغنائية. كان صوته وأداؤه وهيئته تذكر بالمطرب السوري صباح فخري كما تذكّر بقدر أقل بمحمد خيري ووديع الصافي. وخلال فترة قصيرة استقل دحلة مع فرقته الخاصة، وبدأ يحيي الأفراح في منطقة سكنه، مؤدياً الموشحات والأدوار والقدود الحلبية، ومن ثم انتشر فنه في مدن فلسطين التاريخية من الشمال الى الجنوب.

في قرية طرعان الجليلية، الواقعة بمنتصف الطريق بين مدينتي الناصرة وطبريا، ولد مصطفى عبد الكريم دحلة عام 1954، وتلقى فيها دراسته الابتدائية والثانوية. ومبكراً، اكتشف جده جمال صوته، فكان يصطحبه إلى المسجد ويشجعه على ارتقاء درج المئذنة ورفع أذان الصلاة، وفي طريق العودة إلى داره كان يسمع من أهل القرية كلمات الثناء والاستحسان. كانت القرية بلا كهرباء، والمسجد بلا مكبرات صوت، ما أتاح وصول صوت الصبي إلى جمهور القرية دون أي مؤثر خارجي، فكان ذلك من أسباب زيادة الإعجاب، فأسندت له مدرسته الابتدائية رئاسة فرقة الإنشاد.

أثر التلاوة والإنشاد

كان لتلك النشأة الدينية أثر عميق في تكوين دحلة الفني، وقد أدرك مبكراً أثر التلاوة والإنشاد في أدائه الغنائي، وكذلك أثر النشأة الدينية في مزاجه المحافظ. هكذا بدأ يغني في سن صغيرة على غير هدىً، وتمرس في مهن مختلفة حتى قرر أن يتتلمذ على يد صدقي شكري، معلم العود في مدينة عكا، فبقي عنده طالباً لسنوات، تحمل فيها عناء السفر بالمواصلات العامة من قريته إلى عكا حاملاً عوده، والعودة إلى بيته في ساعات الليل، وأمامه صورة قدوته الفنية الأولى صباح فخري.

في مراحل تالية واصل دحلة مسيرة تعليمه في معهد روبين للموسيقى ثم في معهد أورنيم. أحب دحلة أصوات أعلام الغناء المصري، وفي مقدمتهم محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وزكريا أحمد وصالح عبد الحي، لكن قلبه كان معلقاً بمدينة حلب، التي يعتبرها عاصمة الموسيقى والطرب، كما يعتبر صباح فخري أباً روحياً، والموشحات أرقى أشكال الغناء.

لم يكن دحلة ممن يجيدون التسويق لأنفسهم، ولم يكن مهتماً بتوسيع شهرته خارج فلسطين، فظلت أسفاره الفنية محدودة للغاية، لكنه لا ينسى رحلته المهمة إلى القاهرة ومشاركته في فعاليات مؤتمر الموسيقى العربية عام 1988، بصحبة فرقة الفارابي، وقد حرصت رتيبة الحفني، رئيسة الأوبرا حينها، على ترتيب لقاء مع صباح فخري الذي استمع مندهشاً إلى غناء دحلة، وشاهد تفاعل الجمهور المصري معه. أخذ فخري من أداء دحلة الذي يكاد يتطابق مع أدائه، فبادره قائلاً: "ستكون وريثي في الموشحات". فاجأ صوت دحلة وأداؤه جمهور مؤتمر الموسيقى في القاهرة، وتناولته الصحف المصرية بالمدح والإشادة. تلقى الرجل عروضاً للإقامة في مصر، لكن ظروفه الأسرية منعته من التعامل إيجابياً مع هذه الفرصة التي كانت ولا شك تمثل نقلة مصيرية في مسيرته.

صوت سوري

يبدو صوت دحلة سورياً حلبياً بامتياز، أسلوبه في الغناء، وطريقته في الزخرفة والعُرب تنتمي إلى الشام وحلب أكثر من انتمائها للغناء المصري رغم مركزيته وتأثيره. ويغلب الأسلوب الشامي على أدائه حتى وهو يغني الأدوار المصرية لمحمد عثمان أو سيد درويش، أو وهو يؤدي أغنيات محمد عبد الوهاب وأم كلثوم. ويمكن أن نمثل لهذا الجانب بأدائه لأغنية يا ليلة العيد، أو طقطوقة ليه يا بنفسج، التي يسبقها بموال "فيك ناس يا ليل بيشكوا مواجعهم"، قبل أن يملأ مقاطع الأغنية بالتصرفات والتفريد.

امتلك مصطفى دحلة صوتاً عريضاً قوياً مطواعاً، يمتد على مساحة ديوانين، فكان قادراً على أداء أصعب الأشكال الغنائية. ويرى كثير من متابعي الغناء في الداخل الفلسطيني أن دحلة لم ينل المكانة التي يستحقها بسبب الظروف التي يعيش فيها العرب داخل دولة الاحتلال. لكن لا يمكن إغفال طبيعة الرجل التي أدارت ظهرها لكثير من الفرص، ولم تهتم يوماً لا بالصحافة ولا بوسائل الإعلام. فلا يجد من يبحث عن دحلة على شبكة الإنترنت إلا معلومات شحيحة لا قيمة لها، كما لا يجد أي لقاء تلفزيوني أو إذاعي مع الرجل.

كان اهتمام دحلة بالموشحات كبيراً، وهو من قلة نادرة من الفنانين العرب الذين قدموا ما يعرف بوصلة الموشحات، وهي طريقة في العرض تراعي التقديم المتتالي لمجموعة من الموشحات المتحدة مقامياً والمختلفة إيقاعياً. وكان دحلة يقدم الموشح بصحبة فرقة الفارابي، أو فرقة الموسيقى العربية التي أسسها سهيل رضوان. كما كان يقدم الوصلة المتنوعة، التي تضم عدة أشكال غنائية مختلفة، وكل هذا في إطار الأداء الحلبي الكلاسيكي. ومن الموشحات التي أداها دحلة: "أيها الساقي"، و"فاتن الغزلان"، و"ملا الكاسات"، و"يمر عجبا"، و"جادك الغيث إذا الغيث همى"، و"لو كنت تدري ما الحب يفعل"، و"يا غصن نقا مكللا بالذهب"، و"يا ذا القوام السمهري".

توضح تسجيلات دحلة المنشورة على "يوتيوب" مدى تأثره بصباح فخري، وتبين أن هذا التأثير تجاوز أحياناً أسلوب الغناء إلى الهيئة والوقفة وحركات اليدين، وبدرجة تجعل المشاهد الذي يراه من بعيد يظن أنه صباح فخري. لكن دحلة كان متأثر أيضاً بوديع الصافي، وكان يقلد طريقته في الغناء وفي إنتاج الصوت.

مصطفى دحلة ينحاز للغناء الشرقي الكلاسيكي

تسجيلات دحلة تكشف انحيازه طوال حياته للغناء الشرقي الكلاسيكي، واختياره من الغناء المصري الألحان ذات الطابع الطربي، لسيد درويش وزكريا أحمد وداود حسني ورياض السنباطي، مع اهتمام كبير بالمواويل والارتجالات التي كان يستعرض فيها صوته العريض، وجواباته القوية.

في المنتديات الموسيقية، ومواقع التواصل، سيجد المستمع تسجيلات متنوعة لدحلة يغني فيها: "الورد جميل"، أو "ضيعت مستقبل حياتي"، أو "إمتى الهوا ييجي سوا"، أو "يا ما أنت واحشني"، مع عشرات من أعمال صباح فخري ووديع الصافي.

عاش دحلة في مدينة الناصرة العريقة، التي تتراكم فيها فنون الغناء والتلحين والعزف، وحظي بشعبية وتقدير من محيطه المجتمعي، وكانت الناصرة دوماً منطلقه إلى كل مدن الجليل وقراه، ثم إلى عموم فلسطين. بدأ رحلته مع الغناء مبكراً، بأداء الأذان فوق منارة المسجد، ولم يكن قد بلغ عشر سنوات، واليوم يدخل دحلة عامه السبعين، فيكون قد أكمل مع الطرب 60 عاماً.

ارتبط دحلة بجماهير فلسطين ارتباطاً مباشراً، لأن الأفراح وحفلات الزفاف كانت ميدانه الأول، وبدرجة ربما تفوق المحافل الغنائية المحضة. نعم، أصبح مقلاً في نشاطه الفني، لا سيما بعد أن أدى فريضة الحج هذا العام، لكن الجماهير تتوق إلى نضارة صوته، وإلى أدائه الممتلئ طرباً، وإلى تحليقاته مع المواويل العربية والقدود الحلبية في ليل فلسطين.

المساهمون