قائد الأوركسترا... زمنٌ توجّهه تلك العصا

10 ديسمبر 2023
يصدر قريباً عن "نتفليكس" فيلم حول ليونارد بيرنشتاين (سانتي فيسالي/ Getty)
+ الخط -

لم يكن المايسترو الإيطالي آرتورو توسكانيني (1867 - 1957) يُعدّ نفسه لأن يحظى بهذا اللقب. قد بدأ المهاجر الشاب حياته الموسيقية عازفاً ضمن فريق آلات التشيللو في أوركسترا إذاعة ريو دي جانيرو البرازيلية.

لكن ما حدث سنة 1886 غيّر مجرى حياته، وذلك خلال عرضٍ شارك فيه لعايدة (Aida) الأوبرا الشهيرة للمؤلف الإيطالي جوزيپي فيردي (1813-1901) والمحفوظة بالذاكرة العربية، لكونها كُتبت بتكليف من الملك المصري الخديوي إسماعيل، لكي تؤدى في القاهرة، بمناسبة افتتاح قناة السويس سنة 1871.

أثناء العرض، أصيب قائد الفرقة بوعكة صحية منعته من متابعة المهمة التي تصدى لها على الفور عازف التشيللو. من دون تحضير مسبق، أو خبرة حقيقية بالقيادة، ومن وحي الذاكرة السمعية، اعتلى توسكانيني المنصة، أمسك بالعصا ليُتمّ فصول الأوبرا الأربعة، وسط دهشة ممزوجة بالإعجاب لدى العازفين وجمهور المتفرجين. هكذا، لم يمض على واقعة عايدة الوقت حتى، أخذ "المايسترو بالصدفة" يصعد بخطوات واثقة درجات السيرة المهنية، ليس كقائد أوركسترا محترفٍ وحسب، وإنما من أعظمهم.

لعبت الصدفة دوراً مشابهاً في شهرة قائدٍ أوركسترا آخر. كان الشغف الحقيقي لدى عازف البيانو الأميركي ليونارد بيرنشتاين (1918 - 1990) أن يصير مؤلفاً موسيقياً. لم يتجه إلى قيادة الأوركسترا بالدرجة الأولى إلا بغرض الضمان لنفسه ولأسرته سُبل الأمان المادي. بهذا، فإن منصب "القائد المساعد" الذي حظي به في إحدى كبريات الفرق الموسيقية الأميركية، فلهارمونية نيويورك، قد مثّل بالنسبة إليه جلّ ما يتمنى.

ثم أتى يوم 14 نوفمبر/ تشرين الثاني من سنة 1943. على جدول أعمال الفلهارمونية، كان موعد دعوة برونو فالتر إلى حفل على مسرح كارنيغي النيويوركي، ليقود الفرقة في أدائها السيمفونية الخامسة للمؤلف الحداثي الروسي ديميتري شوستاكوڤيتش. أما على جدول أعمال القدر، فقد كان بيرنشتاين على موعد مع شهرة محلية ستفيض إلى العالمية. قُبيل الحفل، عانى فالتر من أعراض صحية مفاجئة أوجبت إلغاء مشاركته، لتُلقى مهمة إحياء الأمسية على كاهل القائد المساعد بيرنشتاين. أبلى ابن الخامسة والعشرين بلاءً منقطع النظير، ليُعيّن في أعقاب ذلك قائداً رئيسيّاً للفرقة.

من المنتظر في 20 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، أن تبدأ منصة نتفليكس بعرض فيلمٍ بعنوان، "مايسترو" (Maestro)، من إخراج وبطولة الممثل الأميركي برادلي كوبر. فيه، يستعرض الأخير سيرة حياة ليونارد بيرنشتاين، كما يجسّد شخصيته. في مقابلة دعائية مصورة مع قائد أوركسترا "ميتروبوليتان" النيويوركية، الذي كُلّف بتأهيل بطل الفيلم للعب دور قائد الأوركسترا، أطرى الكندي يانيك نيغيت سيغوين (48 عاماً) على كوبر بمزيج من الجد والهزل، قائلاً إنه شخصياً على استعداد لاستضافته لأجل قيادة الفرقة التي يديرها، على الرغم من أن النجم الهولويوودي ليس له باع في الموسيقى كمحترف، ناهيك عن قيادة الفرق.

في عالم الموسيقى، يكاد لا يمكن تصوّر حالات مشابهة؛ إذ لا يمكن لعازف آلة، مهما علا مستواه، الحلول محل عازف آلة أخرى، أو حتى الآلة ذاتها. كذلك، لن يكون بمقدور أي ممثلٍ، مهما أتقن دوره في تجسيد شخصية عازف غيتار مثلاً أو بيانو، من أن يقدّم حفلة موسيقية بأي معيار مقبول، إن لم يكن في الأساس عازفاً عند أدنى عتبات الاحتراف. ليس ذلك بهدف التقليل من شأن مهمة المايسترو، وإنما التدليل على خصوصيتها، وعليه، فَهْمها وفهم الأسباب التي تجعلها للوهلة الأولى تبدو متاحة، وإن ضمن حدود السهل الممتنع.

يكمن السهل الممتنع في أن عصا القيادة هي الآلة الموسيقية الوحيدة التي لا تصدر صوتاً. حين يُحرك المايسترو الآلة البيضاء الدقيقة في الهواء، لن يتناهى إلى الأذن أي لحن، ما لم يبادر أعضاء الفرقة أنفسهم إلى الاستجابة، فالتصويت. وفي حال بعض الأوركسترا عالية السوية والخبرة، فإن بمقدورها في بعض المقطوعات أن تقود نفسها بصورة جماعية من دون قائد.

إبان عهد الاتحاد السوفييتي في ثلاثينيات القرن الماضي، وتأثراً بطوباوية المعتقدات الشيوعية الداعية لهدم هرمية السلطة، أجريت تجربة تحت اسم "سيمفونية بلا قائد". بموجبها، أحيت أوركسترا راديو لينينغراد السوفييتية سنة 1931 سلسلة حفلات، عزفت فيها من دون حضور قائدها حينذاك، نيكولاي مالكو.

يُفوّض موسيقي واحد تحت مسمى "قائد"، من أجل تعميم رؤية واحدة تؤدى بها المقطوعة

تعدّ الفرق الموسيقية، ومنها الأوركسترالية وسيطاً فنيّاً للتعبير بصيغة جماعية، إذ تُدمج وتركّب أصوات آلات موسيقية، تتعدد كلما زاد تعقيد العمل الموسيقي، لتكبر الفرقة التي تؤديه بعديدها وعتادها. ولئن كان الفن في الأصل وسيط تعبير عن الذات، والموسيقى فنٌّ مجازي قائم على التأويل الذي يختلف بين شخص وآخر، فسيُفضي ذلك إلى عدد من التأويلات الفنية بعدد أعضاء الفرقة الموسيقية. من هنا، يُفوّض موسيقي واحد تحت مسمى "قائد"، من أجل تعميم رؤية واحدة تؤدى بها المقطوعة، ليصبح العازفون مجموعة مُنفّذين، تُوكل إليهم جماعياً وظيفة الأداء، وفقاً لرؤية القائد.

أما الكيفية التي يوجّه بها القائد أعضاء الفرقة لكي يُنفذّوا رؤيته، فهي على شكل إرشاداتٍ تتعلق بالزمن الموسيقي وبالتعبير الموسيقي. من خلال حركة اليد التي تُمسك عصا القيادة، يجري توجيه الزمن.

بتسارع حركتها أو تباطؤها، يجري إرشاد العازفين إلى التغيّرات التي تطرأ على السرعة. أما التعبير الموسيقي، فيجري إيصاله عبر لغة الجسد، المتألفة من مجمل إيماءات جسدية وإيحاءات وجهية، يتفاعل معها أعضاء الفرقة بصورة تلقائية، على شكل سلسلة من استجابات عاطفية، يترجمونها صوتياً على آلاتهم.

ثمة إذاً مهارات محددة يلزم توفّرها لدى قائد الفرقة، منها الموسيقية، أي أن يكون مُلمّاً إلماماً تامّاً دقيقاً وتفصيلياً بالمقطوعة التي يقودها، وأن يُحسن توجيه الموسيقى بدقة عبر حركة العصا التي بيده، أو حتى اليد العارية إن قاد من دون عصا. إلا أن ثمة مهارة يمكن اعتبارها فوق - موسيقية، هي وحدها من تجعل من الموسيقي مايسترو، ألا وهي تلك المقدرة السيكولوجية على بناء قنوات اتصّال عاطفي خلّاق بينه وبين العازفين، ثم بينه وبين جمهور المستمعين.

دلالات
المساهمون