فيلم "توب غان: مافريك"... توم كروز محلّقاً في الأوهام الأميركية

08 سبتمبر 2022
لم يتخلّ كروز عن صورته التقليدية في معظم أفلامه (IMDb)
+ الخط -

حقّق "توب غان: مافريك"، لجوزف كوزينسكي، المعروض للمرّة الأولى في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2022) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي، ملياراً و425 مليوناً و604 آلاف و744 دولاراً أميركياً إيرادات دولية، بين 19 مايو/ أيار و3 سبتمبر/ أيلول 2022. الرقم مُرشَّح للارتفاع، مع تواصل عرضه عالمياً. لكنْ، تصعب معرفة الأسباب الحقيقية التي جعلت عملاً متوسّط المستوى يُحقِّق أرقاماً كهذه، خاصة أنّه ليس أفضل أفلام توم كروز، وليس أحد الأفلام المهمّة المُنتجة في إطار "أفلام الطيران".
يروي الفيلم قصة الطيار بيت "مافريك" ميتشل (توم كروز)، الذي أفنى عمره في خدمة القوات الجوية الأميركية، ونجح في تنفيذ مهمّات عدّة. مع هذا، لم تتمّ ترقيته بسبب تهوّره وسلوكه وطيشه، وهناك من حاول تسريحه مرّات كثيرة بشكل غير مُشرّف نتيجة هذا السلوك، لكنْ هناك دائماً من يحميه، صديقه توم (فال كيلمر)، الذي أصبح أميرالاً، مُرتكزاً على الماضي اللامع، المُتشكّل في تخرّجه من دفعة الأسلحة القتالية، التي يُسمّيها الطيّارون "توب غان"، والتي أسّستها البحرية الأميركية عام 1969، كما يُذكر في بداية الفيلم، وتضمّ واحداً بالمئة من أفضل الطيارين، لتدريبهم على فنّ القتال الجوي.
رغم تهوّره وتسرّعه، لا أحد يشكّ في براعة الكابتن ميتشل، إلى درجة استدعائه لتنفيذ آخر مهمّة: تدريب فريق من الطيارين الشباب، من "نخبة النخبة"، على تنفيذ مهمة تدمير مفاعل نووي سرّي تحت الأرض، في بلد عدو. لكنْ، في منتصف المهمّة، تتمّ إقالته، بعد وفاة صديقه ـ حاميه. غير أنّ إصراراه وعناده أعاداه إلى المهمة مجدّداً، مع المُشاركة في التنفيذ هذه المرّة، لا الاكتفاء بالتدريب.
هذا العمل تتمة لفيلم "توب غان" (1986) لتوني سكوت. مثّل فيه توم كروز الشخصية نفسها، مع عددٍ من الممثلين، بينهم فال كيلمر أيضاً، وحقّق إيرادات دولية بلغت 357 مليوناً و288 ألفاً و178 دولاراً أميركياً (بحسب الموقع الإلكتروني "بوكس أوفيس موجو")، مُظهراً توم كروز أمام العالم كنجم أفلام الحركة. وهذا يتكرّر في الفيلم الجديد، من خلال تناوله الإعلامي وإيراداته المُحقّقة إلى الآن.
لم تخرج قصّة "توب غان" من القالب الكلاسيكي المعتاد، الذي يصوّر الجيش الأميركي حامياً للبشرية من الأخطار الخارجية، والفضائية أيضاً. هناك دائماً بطل جاهز، مُستعد دائماً للمجازفة بحياته، للعب دور البطل الخارق الذي يملك المؤهّلات كلّها التي زرعتها فيه المؤسّسة الأميركية. حتّى السيناريو، الذي كتبه إيرين كروغر وإيريك وارّن سينغر وكريستوفر ماك كوري (عن قصة لبيتر كريغ وجاستن ماركس، بناء على شخصيات ابتكرها جيم كاش وجاك أبس جونيور)، جافٌ بلا روح، لا يُقدّم صُوراً جديدة أو مبتكرة، بل مَشاهد غير أصيلة، لا إبهار فيها ولا تجديد. إنّها إعادة سمجة لمَشاهد مُتفرّقة من أفلام أخرى.

تصعب معرفة الأسباب الحقيقية التي جعلت عملاً متوسّط المستوى يُحقِّق أرقاماً كهذه

توم كروز نفسه لم يتخلّ عن ثوبه القديم، الذي ارتداه في معظم أفلامه: الذاهب إلى مجازفةٍ تحبس الأنفاس، والمحارب دائماً ضد قوى الشر، التي لا تريد انتصار الخير، كما في هذا الفيلم، الذي يُنقذ فيه البشرية من خطر التسلّح النووي. حتّى صيغة بناء السيناريو لم تُقدّم جديداً، وكالعادة دائماً، هناك شخصية ثانوية تُنافس شخصية أخرى، وللبطل سوء فهم لحادثة مهنية في الماضي، وفي الوقت نفسه لديه علاقة مشوّشة مع فتاة، تخلّى عنها من أجل مهنته. طائشٌ، لكنّه يؤدّي عمله على أكمل وجه. عجوزٌ، وفي المقابل يتجاوز الشباب مهارةً. لديه جاكيت جلدي، ويحبّ الدرّاجات النارية بدلاً من السيارات. تحاصره المشاكل، لكنّه ينتصر في النهاية، وتنتصر معه البشرية، فالخير يبقى دائماً، وهذا الخير يأتي به الجيش الأميركي، الذي يحمي الكوكب من الأعداء والمارقين.
العناصر الفنية، التي تشكَّل منها السيناريو لم تخرج من تراتبية التقديم والعرض والعقدة والحبكة والذروة والنهاية. كأنّ كتّابه أرادوا شبّاك التذاكر فقط، ولم يهتّموا بالتفاصيل الروحية التي تسمو بالعمل، ولم يعطوا للقالب الفني المُغاير مساحة يستحقها. آثروا بناء الفيلم انطلاقاً من الجانب العلمي، الذي يوفّر الإثارة والتشويق، ويُهيمن على المُشاهد، ويرفع الإيرادات، بينما أُهمِلَت روح التجديد، وتقديم الإضافة التي من شأنها الحفاظ على تماسك السينما مُستقبلاً. بالتالي، حقّقوا انتصارات آنيّة، عكسها شبّاك التذاكر، على حساب سينمائيّة الفيلم وفنّيته.
طرح "توب غان: مافريك" أسئلة سياسية مهمّة عمّا يمرّ به العالم حالياً، بدءاً من المخاطر الكبيرة التي تشكّلها البرامج النووية. ورغم أنّ هدف الطيارين تدمير مفاعلٍ نووي في بلدٍ معادٍ، لم يُسمّى هذا البلد، ما يطرح احتمالات، أقربها روسيا أو إيران. أسئلة هامشية مطروحة أيضاً، بشكل غير مباشر: ضرورة وضع برامج مختلفة لتطوير المنظومة الدفاعية والهجومية، مع التحذير من أنّ الغلبة، في المستقبل، ستكون لمن يملك التكنولوجيا المتطوّرة والتدريب الجيّد، لتحقيق التوازن الدفاعي والهجومي، لحماية المصالح الأميركية عامة. هذا يخدم الوجه العسكري للولايات المتحدة الأميركية، وفي الوقت نفسه يُقدّم رسالة تحذير إلى دول مُعادية لها.

اعتمد "توب غان: مافريك"، أساساً، على الرصيد الكبير للممثل توم كروز، في أفلام الأكشن، بالإضافة إلى الاهتمام الإعلامي الذي يحظى به على مدار السنة. فهناك خوارزمية، على مواقع التواصل الاجتماعي والإعلامي، لا تتوقّف عن ترديد اسمه، وهناك من ينسج البطولات حوله.

هذه يبتكرها الجمهور ويُحبّها، لذا، تحوّل كروز مع الوقت إلى جوكر سينمائي، وعرف جيداً هذا المعطى، فأصبح يُشارك في الإنتاج، لإدراكه النتائج مسبقاً. كما أنّه لا يتوقّف عن تقديم الدعاية اللازمة للفيلم في محافل دولية عدّة، كمهرجان "كانّ" السينمائي، وحضوره إليه في طائرة هليكوبتر، لعرض فيلمه هذا، ولتكريمه بسعفةٍ ذهبية عن مجمل أفلامه. هذه معطيات ساهمت، بشكل آخر، في انتشارٍ واسع للفيلم.
لا بُدّ من الإقرار بأنّ هناك جماليات عدّة، أبرزها اختيار أماكن التصوير الشاسعة، التي توفّرها الصحراء، والفضاءات الواسعة التي يعكسها البيت الكبير لميتشل، وأماكن التدريب، إلى فضاءات خارجية صُوِّرت على أنّها أرض العدو، توحي بالهدوء والترقّب والخوف من القادم. بالإضافة إلى الحركة السلسة للكاميرا، ومحاولة صنع المشهد من تفاصيل صغيرة مُهمَلة، كتكبير الصورة على عملية غسل اليد، وكيفية ارتداء الجاكيت، ونزع القميص، والضغط على الزر. تفاصيل مُهمّة، تُشكّل ـ حين يجمعها المونتاج (إدي هاملتن) ـ معنى وجمالاً. هذا كلّه بفضل إبداع مدير التصوير التشيلي كلاوديو ميرندا، الذي له تجارب ساحرة في التصوير، ونال بفضلها جوائز عالمية.

المساهمون