عشرة أعوام مرّت على انطلاق الثورة السورية. خلالها، تبدلت اهتمامات السوريين، بعد الحرب الهمجية التي شنت عليهم من قبل النظام. لكن مع بداية الثورة، كانت أنظار السوريين، موالين ومعارضين، تتجه نحو الوسط الفني، وتحديداً تجاه الفنانين والممثلين المشتغلين في قطاع الدراما، التي تعتبر إحدى الواجهات الثقافية لسورية منذ مطلع ستينيات القرن الماضي، فكانت الرهانات حاضرة على من سيقف مع هذه الضفة أو مع مقابلها.
سرعان ما بدأت عملية الفرز، فاختار قلة من الفنانين والممثلين السوريين، الوقوف إلى جانب الثورة، فيما اختارت شريحة أخرى الوقوف إلى جانب النظام والدفاع عنه. غير أن الصامتين، أو ضامري الموقف، كانوا الشريحة الكبرى في الوسط الفني، لأسباب مختلفة خاصة بهم، وهي متعددة وصعبة الحصر. بيد أن كثيراً من الصامتين، فسروا في ما بعد صمتهم على أنه معارضة وعدم قبول لهمجية النظام في التعامل مع الحراك، وقمعه والمجازر التي ارتكبت، ولا سيما أن الكثير من عناصر تلك الشريحة، باتوا خارج سورية.
لاحقاً، تغير كثير من مواقف الممثلين والفنانين المؤيدين للنظام، ليس لصالح المعارضة، ولكن ضد فشل النظام بتلافي الأزمات المعيشية التي تعيشها البلاد التي لم تستثن كل الشرائح، ومنهم الفنانون الذين كان لهم حظوة في السابق ومكانة في المجتمع، ووجدوا أنفسهم مع غيرهم من السوريين، بانتظار أبسط المواد الأساسية، التي انصرف عن تأمينها النظام إلى صالح العسكرة وإيجاد المزيد من الحلول الأمنية، ولم يأبه لحال مؤيد ومعارض. وكان الفنانون، الموالون للنظام تحديداً، ضمن هذه المعمعة، يشعرون بعدم تلقي المكافأة على الخدمات التجميلية التي قدموها للنظام، ولا سيما في ظل الحرب، الأمر الذي أدى لتغير مواقفهم، بشكل أو بآخر.
آثر كثير من الفنانين مغادرة سورية مكتفين بالصمت والحياد
وشكل رحيل المخرج حاتم علي، في الأيام الأخيرة من العام الماضي، حالة يمكن الوقوف عندها في هذا السياق، إذ لم يعلن الراحل علي موقفاً صريحاً، لا مع النظام ولا مع المعارضة، لكنه اختار مغادرة البلاد مبكراً، مضحياً بالعديد من الأعمال التي كان من الممكن أن ينتجها ويصنعها في حال قرر البقاء. هذا ما فسر على أنه موقف احتجاجي منه، سخطاً على القمع الحاصل تجاه السوريين من قبل النظام، سواء في المناطق المسيطرة عليها من قبله، أو تلك الخارجة عنه التي أمطرها بالبراميل المتفجرة والصواريخ.
وجمع حاتم علي بعد رحيله المؤيدين والمعارضين على حد سواء، في نعيه والمشاركة بجنازته، شعبياً وداخل الوسط الفني، غير أن النظام كبنية، تعامل مع وفاته بكثير من اللامبالاة والانفصال عن الحدث والواقع، فكان تشييع علي في دمشق شعبياً بامتياز، خلا من الرسمية وأي حضور حكومي من قبل وزراتي الثقافة أو الإعلام، أو نقابي من خلال نقابة الفنانين المسيطر عليها من قبل فنانين موالين بشكل كبير للنظام، على رأسهم زهير رمضان. ما فُهم من الجميع، وربما هي رسالة من قبل النظام لأمثال المخرج حاتم علي، بأن لا كرامة عنده إلا لمن يؤيد مواقفه صراحة ويدافع عنها، وحتى هؤلاء لا يمكن أن يكونوا بمأمن من تعامله المجحف، وهذا ما أثبتته الظروف الأخيرة.
وبات الانقسام الفني الذي شهدته الأعوام الأولى من الثورة داخل الوسط الفني، بين موالٍ ومعارض وصامت، محط إعادة تقييم بعد عشرة أعوام من الثورة، وتغير ظروف البلاد والمجريات التي ساقت كثيرين إلى تبديل مواقفهم، أو المغالاة فيها في بعض الأحيان.
يرى الفنان والممثل السوري جهاد عبده، الذي قرر الانحياز إلى الحراك منذ بدايته، وفتح لنفسه آفاقاً جديدة في عمله بعد مغادرته البلاد إلى الولايات المتحدة الأميركية، أنه من "الطبيعي أن يقف الفنان إلى جانب جمهوره الذي طالب بأدنى حقوقه المشروعة"، ويتأسف في حديثه إلى "العربي الجديد"، على قرار بعض الفنانين الوقوف على الجانب الآخر لأسباب باتت معروفة للجميع بحسبه، ملخصاً إياها: "إما مصالح مشتركة، أو رغبة بالحفاظ على المكتسبات التي جمعوها، والدليل على ذلك، الدفاع المستميت عن النظام المستبد وحلفائه المتوحشين".
ويضيف: "هذا ما خلق انقساماً يصعب رأبه، خصوصاً بعد كل حملات التخوين بحق زملائهم الفنانين، الذين خسروا نتيجة موقفهم الأخلاقي كل شيء، المنزل ومصدر الرزق والعائلة.. إلخ".
ينقل عبده: "قال لي أحد الأصدقاء الفنانين، وهو ممن وقف على الضفة الأخرى؛ (والله كنا عايشين أحلى عيشة! شو كان ناقصك إنت؟ كنت ساكن بالمزة، وما عم تهدي شغل، وعندك أحلى سيارة وعم تسافروا إنت وزوجتك سياحة كل سنة على بلد جديد). فقلت وبكل بساطة: نعم هذا صحيح يا صديقي، كنت أعيش برخاء ولكن كان غيري يعاني العوز والفقر والحاجة، ما قيمة أن أعيش أفضل من غيري وأنا مسلوب الحرية، ومجبر على السكوت ومشاهدة كل مظاهر الفساد والظلم أمام عيني ويطلب مني السكوت للحفاظ على حياتي؟ أي الحياة هذه؟".
يقول عبده: "كلنا كان يعرف أن خيرات بلدنا تذهب لحفنة من اللصوص وعلينا الرضوخ لمشيئتهم، وهذه عبودية حديثة. للأسف، النظام علم شعبه أن يضع أخلاقه جانباً وعلم المواطنين الأنانية، عبارة (اللهم نفسي) كانت وما تزال هي المسيطرة، للأسف تراجعت النخوة والإحساس بالحق والعدالة (لغيري قبل نفسي)".
وجد الممثلون المؤيدون أنفسهم مجرد أداة بيد النظام
وحول حالة التذمر التي يبديها الفنانون من النظام في ظل الأوضاع المأساوية التي تعيشها المناطق الخاضعة لسيطرته، أكد عبده بأن "النظام وعد، إما بشكل مباشر أو غير مباشر، كل من ناصره بالكثير، وحلم بعض المناصرين بالسلطة والمال مقابل تشبيحهم، لكن الوعود تلاشت أمام حقيقة مرة، ألا وهي أن النظام ليس له ولاء إلا لذاته، وسيضحي حتى بمن وقف معه ليبقى مهما كان الثمن".
يضيف: "لقد صحا بعض الممثلين على هذه الحقيقة متأخرين، حين جفت الموارد على هؤلاء وشعروا بالضيق وأدركوا أنهم وضعوا ثقتهم في المكان الخطأ، حتى لو فكروا بالقفز الآن من مركب النظام الغارق، لن يستطيعوا اللجوء، فهم غير مرحب بهم في بلاد اللجوء. على سبيل المثال، اليوم أدركوا أنهم خسروا الرهان وأن هذا النظام الذي طبلوا وزمروا له قد استعملهم كما فعل مع غيرهم، لذلك بدأ صوتهم يرتفع قليلاً، ودوماً من دون المطالبة بمحاسبة رأس النظام".
الفنان والممثل المسرحي بسام داود، هو الآخر قرر الانحياز للثورة، ويعيش اليوم في ألمانيا. يشير إلى أن "الانقسام في الوسط الفني بين موال ومعارض وصامت، هو انقسام طبيعي نظراً للانقسام الذي حصل داخل المجتمع السوري"، ويضيف في تصريح لـ "العربي الجديد" أن "الممثل والمخرج والكاتب، هو إنسان في النهاية، وفكروا كما يفكر السوريين جميعاً، بمعنى أن هناك المستفيد من النظام ويؤيده، وهناك من يرى فيه كابوساً ويخاف منه، وهناك من خرج من البلاد دون موقف، وأيضاً نتيجة الخوف".
ويشير كذلك إلى أن "بعض الفنانين يؤيدون النظام لقناعتهم أنه على حق، وهذه قناعة تامة لديهم، رغم أننا نحن بالطرف الآخر ننظر إلى أن هذه الفرضية خاطئة نظراً للإجرام المفرط للنظام، لكنهم تبنوا فكرة المؤامرة والدفاع عن البلد، وأن هذا الدفاع يحتاج إلى خسائر، وكل ما يحدث من موت ودمار يندرج ضمن هذه الخسائر التي تحتاجها المعركة للحفاظ على سورية، وهذه الشريحة من الفنانين الموالين، لا يمكن القول إنه قُدمت لهم حوافز ومغريات ككثير غيرهم، على العكس هم مقتنعين بما فعلوا ويفعلون، بالإضافة لكثيرين ممن ذهبوا وراء انتمائهم الطائفي والمذهبي من خلال الدفاع عن النظام".
أما بخصوص الشريحة الصامتة، فيعطي داود وجهة نظر تفصيلية عنهم بالقول إن "الكثير من عناصر هذه الشريحة من الفنانين، لديهم موقف معارض يفصحون عنه ضمن دائرتهم الضيقة، وهؤلاء اختاروا الصمت حفاظاً على عملهم في المهنة، لأن من المعروف أن علاقات النظام متجذرة مع شركات الإنتاج والقنوات، وبالتالي الموقف لهم، المؤيد للمعارضة، يعني خسارة أعمالهم، وهذا ما حدث مع الكثير من الفنانين والممثلين الذين قرروا الانحياز للثورة، فمن بين هؤلاء الأخيرين، يعدون على أصابع اليد الواحدة الذين استطاعوا الحفاظ على مهنتهم وعملهم، أما الأغلب، فقد خسروا تضحية لموقفهم".
يدافع داود عن فكرة الانحياز للثورة من قبل هذه الشريحة، وهو منهم: "لم يكن بوسعنا أن نغمض أعيننا عن جانب إنساني واضح، وهذا موقف أخلاقي قبل أن يكون سياسياً، فعندما قررنا الالتزام بمبادئنا الإنسانية والأخلاقية، كنا ندرك تماماً أن حجم الفاتورة والتضحية سيكون ثمنه باهظاً، هناك من قبل، وهناك من فوجئ، بالنسبة لي لم أُفاجأ، وكنت صراحة متوقعاً لما حدث في ما بعد".
يشير إلى أن "هناك قسماً اختار ألا يتحمل هذه الخسارة، فآثر الصمت وخرج من سورية إلى لبنان أو الإمارات حفاظاً على المكاسب المادية والمهنية، ومن بين هؤلاء من اعتبروا أنهم ما داموا يقومون بأعمالهم ويحصلون على المال، فهم بمقدورهم مساعدة الناس، ولا سيما المتضررة من النظام، بالتبرع وتقديم المساعدة، وهذا موقف يحتاج إلى الدخول في ذوات هؤلاء للتأكد من حقيقة نبله من عدمه، وهذا الأمر مستحيل".
ومؤخراً استخدم الكثير من الفنانين والممثلين السوريين، وكثير منهم معروف بموالاته للنظام، منابر إعلامية محلية، ولا سيما الإذاعات الخاصة، بالإضافة إلى صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، للتعبير عن سخطهم تجاه الأزمات المعيشية والفشل الحكومي داخل مناطق سيطرة النظام، لكن إلى حد الآن لم يتجرأ منهم على من يوجه الانتقاد لمكمن الفساد والوضع السيئ الذي تعيشه البلاد، ولا سيما رأس النظام السوري، وأجهزته الأمنية والمخابراتية القابضة على كل مفاصل الحياة في سورية.