فرانسواز هاردي... الكآبة بقناع الخفّة المرِح

16 يونيو 2024
قُدِّر لشخصية فرانسواز هاردي أن تجتمع فيها كل المتقابلات المتناقضة (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- فرانسواز هاردي، المغنية الفرنسية التي توفيت عن عمر يناهز الـ80 عامًا، تركت إرثًا موسيقيًا كأيقونة غنائية تجسد الميلانكوليا والهشاشة العاطفية، معبرةً عن صورة المرأة العصرية في زمانها.
- خلال مسيرتها من الخمسينيات إلى الثمانينيات، انضمت هاردي لجيل الييه ييه الفرنسي، ممزجةً بين الثقافة الأنكلوساكسونية والروك آند رول في أعمالها، ما أضفى عليها طابعًا فريدًا يجمع بين الخفة والمرح.
- استطاعت هاردي أن تعكس من خلال أغانيها صورة المرأة الحالمة والوحيدة في مجتمع ما بعد الحرب، محققةً نجومية واسعة رغم بداياتها المتواضعة والتحديات، وأظهرت تطورًا في أعمالها مع الحفاظ على شخصيتها الفنية الفريدة.

تبوّأت المغنية الفرنسية فرانسواز هاردي (Francoise Hardy) التي رحلت أخيراً عن 80 عاماً، مكانة متألقة كأيقونة غنائية أنثوية في ساحة الفن الجماهيري، تبدو لجهة الخطاب مختلفة جذريّاً عما هي الأنوثة في الساحات الفنية اليوم. ففي زمانها، قد مثّلت الميلانكوليا والهشاشة العاطفية وفقدان الأمان النفسي السمات الشخصية العامة للمرأة العصرية.

كان ذلك في حقبة زمنية امتد رواجها من نهاية الخمسينيات إلى أوائل ثمانينيات القرن الماضي. انتمت فرانسواز هاردي خلالها إلى جيل فرنسي فتيّ صاعد من مغنيات ومغنين، أطلق عليه لقب جيل هيه هيه (Génération yé-yé) في إشارة إلى مظاهر الخفة والمرح. أبرز ما تميّز به من الناحية الفنية، هو خضوعه شبه التام للمدّ الثقافي الأنكلوساكسوني، المتمثل بتسونامي الروك آند الرول المُنمّق الذي ساد الغرب حينذاك، بموجته الأشد علوّاً، ألا وهي فريق البيتلز البريطاني.

موضة الخفة والمرح القادمة من الولايات المتحدة وبريطانيا، قُدّر لها أن تصطدم بقارة أوروبية مثخنة الجراح جراء حربين عالميتين. كان شبابها قد بدأ باختبار فورة تحرّر اجتماعي قلق، مدفوعٌ بشيوع ثقافة التسليع والاستهلاك والليبرالية الجنسية، بينما لم تزل تكبح جماحه فلول مجتمع محافظ مرضوضٌ بسبب عقود من الدمار والفاقة، يخشى على نفسه وعلى أسره الآتي من التحوّلات السياسية والاجتماعية.

من رحم تلك التحولات، انبثقت شخصية فرانسواز هاردي الفنية، لتبدو إذا ما قورنت بثقافة تمكين الذات، أو تفعيلها السائدة على أعتاب الربعية الثانية من القرن الحادي والعشرين، خصوصاً ضمن المشهد النسوي المعاصر، روحاً رقيقة خجولة وجسداً فاتناً جذّاباً. حينما تقف وسط المسرح لتصوير واحدة من أغانيها، كانت تعكس على شاشة الكاميرا علامات التردد والقلق، وحينما تغني، يكاد صوتها لا يغادر حنجرتها، وعند الإصغاء إليه، لا يمكن تبيّن كمون جمالي ولا طاقة تعبيرية، علّهما يميّزاه عن صوت أيّ فتاة.
  
مُعظم الأغاني التي كتبتها ولحّنتها فرانسواز هاردي لتُغنّيها على مدار عشر سنين قادمة، نُظِمت على حفنة من النغمات، تعلّمت عزفها سلاسل هارمونية (أكوردات) على الغيتار بمفردها، حين لم تزل في سن السادسة عشرة. لم تُفلح وهي طالبة تدرس الأدب الألماني في الجامعة، في أيٍّ من فحوص الاختيار التي كانت تُجرى لصيد المواهب الغنائية الفتيّة، إلى أن حالفها الحظ مرة واحدة، عندما حظيت أغنية لها بفرصة بث إذاعي قصير خلال استفتاء شعبي حول الطريقة التي ينبغي بها انتخاب رئيس الجمهورية الفرنسية.

كانت الأغنية "كل الفتية والفتيات" (Tous les Garçons et les Filles) التي جمعت ليس فقط سمات أغاني فرانسواز هاردي، وإنما الأغنية الفرنسية الصاعدة بمجملها في تلك الحقبة. على إيقاع رقصة الجيغا (Gigue) ذات الست ضربات، والتي تُميَز الأغاني الفرنسية الشعبية القديمة، تحمل ثيمة موسيقية بسيطة، تُعزف بنقر على أوتار غيتار كهربائي، يُستهل الغناء بالحديث عن صبايا وشباب ينتمون إلى جيل المغنية، يتمشّون أزواجاً عاشقين، عاقدي الأيادي، يحظون السعادة، لا يشعرون بخوف من الغد.

أما هي، بحسب الكلمات عند الانتقال إلى مقطع الكوبليه؛ فوحدها من تمشي بمفردها، روحها تائهة، تعاني الوحدة، لأن لا أحد يُحبّها. غير أن التعبير موسيقياً، سواءً عبر اللحن أو الإيقاع، عن العزلة والعوز العاطفي، إنما يبقى وعلى طول الأغنية، على ذات الجرعة المُخدّرة من الخفّة والمرح. بهذا، تتناهى الأغنية كما لو كانت تعاني انفصاماً بين كل من الشكل والمضمون، منشؤه الصراع بين غَلَبة الميلانكوليا والشعور بالغربة من جهة، ورغبة التمسك بظاهر روح العصر المتمثّل بسمتي الخفّة والمرح من جهة مقابلة.

حظيت الأغنية فور بثّها بإقبال جماهيري كبير. حافظت على المرتبة الأولى من بين الأغاني الأكثر استماعاً لمدة خمسة عشر أسبوعاً في فترة امتدت ما بين خريف سنة 1962 وربيع عام 1963، انطلقت هاردي خلالها لتُحلّق عالياً في سماء النجومية، فتتحول إلى أيقونة نسائية في عقدٍ صاخب ماجن تماهى في أوروبا والولايات المتحدة مع مخرجات الثورة الجنسية ومآلات الفورة الاجتماعية وعنف الحراك السياسي، الذي تمخّض عنه اصطفافٌ جيليٌّ بين شباب يتطلّع إلى التحرر وبطركيّة مجتمعية مؤسساتية تسعى إلى الحفاظ على الاستقرار.
 
في غمار كل ذلك، قُدِّر لشخصية فرانسواز هاردي أن تجتمع بها كل المتقابلات المتناقضة والمتصارعة. قد ساهم بذلك تألقها المبكّر أوّل العقد والذي أتى على حين غرّة، ليجعل من سمات الخجل وانعدام الأمان التي عكستها إلى الجمهور تبدو صادقة، فتظهر كمن تعاني من "متلازمة المحتال" (Imposter Syndrome)؛ إذ لم يتميّز صوتها بشيء يذكر سوى محاكاته صوت امرأة الشارع، تدندن وحيدة ولا يسمعها أحد، ولم تتسم تصاميم أغنياتها بفرادة الفكرة أو ثراء الصياغة، لا من ناحية النص الأدبي ولا التلحين الموسيقي.

مع تثبيت أقدامها في الساحة الفنية وتبلورها قطباً جماهيرياً في سوق الأسطوانات الموسيقية آخر عقد الستينيات، أخذت أغانيها تتميّز بأنماط معالجة هارمونية أكثر تعقيداً وأشكال للتوزيع الأوركسترالي أكثر ثراءً، كما هي الحال على سبيل المثال في أغنيتها "كيف أقول لك وداعاً" (Comment te dire adieu) التي وضع لها الصياغة الموسيقية والتوزيعية النهائية المؤلف وقائد الأوركسترا البريطاني آرثور غرينسلايد (Arthur Greenslade).

مع ذلك فإن البرسونا (Persona)، أو الشخصية الفنية الإعلامية التي أرادت مؤسسة الصناعة والإنتاج الترفيهي  لفرانسواز هاردي آنذاك أن تؤديها، بوصفها أيقونة غنائية نسائية، حافظت على ملامحها التقليدية تحت مكياج الخفّة والمرح؛ أنثى وحيدة حالمة وحزينة تعاني الاغتراب والعوز العاطفي، وسط مجتمع غربي يهيج تحت وطأة تغيّرات جذرية وحراكاً تحرّرياً، ليس في وسعها إزائه، سوى التشبّث بأنوثة نمطيّة، تكمن قوّتها في ضعفها، ويرتبط تأثيرها فقط بمدى قدرتها على الإثارة. 

المساهمون