لا تزال صالات سينمائية عدّة، في مدنٍ مختلفة، تعتمد نمطاً قديماً في العروض التجارية للأفلام: الاستراحة. أي أنْ يتوقّف العرض دقائق قليلة، ثم يُكمِل المشاهدون ما يُشاهدونه. في إحدى صالات المجمّع السينمائي "سينمَكسيموم" (إسطنبول)، يُعتَمد هذا التقليد، ولعلّ كثيرين يقبلون به، فهذه الصالات تعرض، عادةً، أفلاماً تجارية، رغم منحها أفلاماً تغاير التجاريّ البحت مساحة عرض، كـ"أولد (Old)" للمخرج الأميركي (الهندي الأصل) أم. نايت شامالان، المعروض بلغته الأصلية (الإنكليزية)، مع ترجمة تركية.
الاستراحة معهودة في صالاتٍ بيروتية، في أعوامٍ سابقة، رغم أنّ غالبيتها تتحرّر لاحقاً من هذا المفهوم الاستهلاكيّ البحت، فالاستراحة تواكَب ببيع مأكلٍ ومشربٍ، وهذه حاجة؛ بينما في "سينمَكسيموم" مثلاً لا شيء يُباع.
هذا غير معمول به في صالة "بِيوغْلو" (شارع الاستقلال، إسطنبول)، المُصنّفة "صالة فنّ وتجربة"، والمستفيدة من دعمٍ أوروبي، تحصل عليه صالاتٌ كثيرة في العالم، كـ"بلازا آر (Plaza Art)" في "مونس" (بلجيكا)، و"متروبوليس" في بيروت (لبنان) سابقاً. لكنّ التشابه بين الصالتين التركيتين كامنٌ في إتاحة الفرصة للمهتمّين بمُشاهدة أفلامٍ تُعرض بلغاتها الأصلية، مع ترجمةٍ مطلوبةٍ، في حفلاتٍ محدّدة، لا في الحفلات كلّها، إذْ يرغب مشاهدون كثيرون في متابعة فيلمٍ مدبلج إلى اللغة التركية، بدلاً من قراءة الترجمة.
يُمكن التعاطي مع الاستراحة بموقفٍ من اثنين، يتناقض أحدهما مع الآخر: قبولها أو رفضها. هذا منوط بكلّ مُشاهِد وبكلّ فيلم، إذْ يرى البعض فيها استراحة فعلية من ثقلٍ درامي وجمالي وبصريّ، إنْ يكن الفيلمُ محمّلاً بقدرٍ من الثراء السينمائيّ المطلوب، رغم أنّ استراحة كهذه في سياق فيلمٍ كهذا تؤثّر سلباً على المُشاهدة، كفعلٍ تأمّلي ـ انفعالي في آنٍ واحد. بينما يرفضها بعضٌ آخر لكونها تعطيلٌ له عن المُشاهدة، وإنْ يستدعي فيلمٌ ما، أحياناً، أكثر من استراحةٍ، لما فيه من ثراء سينمائي، أو لشدّة خوائه وبهتان صُوره واشتغالاته. استراحة كتلك تسمح للمُشاهد بالتفكير ملياً: أيُكمِل الفيلم رغم رداءته، أو يخرج في استراحةٍ نهائية منه؟
الاستراحة نفسها تُحيل إلى نمطٍ منفلشٍ في العالم مع تفشّي كورونا منذ 20 شهراً: منصّات عدّة تقترح عروضاً كثيرة لأفلامٍ ومسلسلات وسلاسل وثائقية، من دون تحديد وقتٍ ثابتٍ، ومن دون إرغام المُشاهِد على التزام قواعد معيّنة تتطلّبها المُشاهدة السينمائية. في غرفة المنزل، يتحكّم المُشاهِد بالمُشاهدة، فيوقف العرض عند رغبته، ولأي سببٍ، ويُتابع المُشاهدة عندما يحلو له، بعد وقتٍ قليل، أو بعد يوم أو أكثر. وهذا ـ إنْ يكن مُسيئاً للمُشاهدة السينمائية، ومُريحاً إلى حدّ ما في مُشاهدة مسلسلات وسلاسل (رغم أنّ هذه المُشاهدة تمتلك قواعدها أيضاً، المُشابهة لقواعد المُشاهدة في صالة سينمائية) ـ يُصبح أساسياً في مرحلةٍ تتّسم بتساؤلاتٍ جمّة عن العزلة والعلاقات البشرية والحياة اليومية والتواصل بين الناس، بالإضافة إلى شكل المُشاهدة البصرية، وآليات متابعتها وأصولها، مع أنّ أناساً كثيرين، في مدنٍ عربية غالباً، غير مُلتزمين شيئاً من هذا، في المُشاهدة السينمائية السابقة على تفشّي كورونا في العالم.
الاستراحة ـ المُعتَمدة في صالاتٍ سينمائية مختلفة (عددها قليلٌ للغاية) لأي سببٍ ـ تُشبه آلية المُشاهدة المنزلية. سينمائياً، يعتبر كثيرون أنّ انقطاع العرض ومتابعته بعد لحظاتٍ يحول دون تواصل متكامل بين المُشاهِد وما يُشاهده، تماماً كمُشاهدة أفلامٍ وأعمال بصرية مختلفة على شاشات المنصّات. فالاستراحة تُصيب المُشاهَدة بأعطابٍ، والمُشاهَدة تحتاج إلى ما يُكمِل حيويتها، كالانغماس الكلّي في أفلامٍ تتطلّب هذا، وإلى ما يصنع متعة المُشاهدة (والمتعة غير مرتبطة بموضوعٍ أو شكل معالجة أو نوع بصري محدّد)، فتحثّ المُشاهد على الانخراط في التفاصيل والهوامش والنواة، التي تصنعها أفلامٌ غير استهلاكية وغير مُسطّحة وغير ساذجة وغير رديئة وغير باهتة، رغم أنّ لهذا النوع من الأفلام جمهوراً واسعاً في العالم، ومهووسين ينتظرون كلّ "جديد" منها، من دون محاسبةٍ نقدية.
هؤلاء غير معنيين بالنقد، طالما أنّهم يشعرون براحةٍ في مقاعدهم (في صالة أو منزل) عند مُشاهدتهم ما ينبهرون به. كما أنّهم لن يوافقوا (غالباً) على استراحةٍ، تمنعهم من متابعة كلّ ما يحدث أمامهم على الشاشة، ولو لثانيةٍ واحدة، لشدّة هوسهم بما يتماهون به، وينتظرونه.
في إحدى صالات "سينمَكسيموم"، يُعرض "الفرقة الانتحارية" (2021) لجايمس غانّ، بلغته الإنكليزية الأميركية، مع ترجمةٍ تركية، أمام 8 مُشاهدين فقط (فيها نحو 220 مقعداً). تمرّ 60 دقيقة (مدّته 132 دقيقة)، ثم يتوقّف العرض، وتُضاء الصالة، فيُعبِّر أصدقاء عن ضيق نَفَسٍ، جرّاء الإرهاق الناتج من مُشاهدة جزءٍ من الفيلم، يكفي لإصابتهم بضيق النَفَس هذا، ما يدفعهم إلى الخروج من الصالة نهائياً. الاستراحة، في لحظةٍ كهذه، مُفيدة، مع أنّ الخروج مُتاحٌ لأي مُشاهدٍ، عندما يرغب.
هذا غير حاصلٍ في صالة "بِيوغْلو"، التي تعرض حينها "سماوات لبنان" (2020) لكلوي مازلو، أمام 13 مُشاهداً، يلتزمون جميعهم قواعد التباعد الاجتماعي (مسافة بين المقاعد، وضع الكمامة مطلوب). إذْ لا استراحة تُعيق المُشاهِد عن المُشاهدة، رغم أنّ الفيلم نفسه يُحرِّض على طلب استراحةٍ، بسبب أعطابٍ فيه.
هذه لقطات من مَشاهِد، تحدث خارج الكادر وداخل السينما.