استمع إلى الملخص
- الأغنية، التي كتبها أحمد فؤاد نجم ولحنها الشيخ إمام، تعتبر رمزاً للصراع الطبقي، وأداؤها في سياق ترفيهي أثار استياءً بسبب التناقض بين مضمونها الثوري وسياق تقديمها.
- أثار الجدل نقاشاً حول دور الفن، حيث يرى البعض أن الفن يجب أن يحمل رسالة اجتماعية، بينما يرى آخرون أنه يمكن أن يكون للتطريب فقط.
استطاعت فرقة "شكون" الغنائية التي انطلقت عام 2014، على يد الشاب السوري المقيم في ألمانيا، أمين خاير، أن تحقق نجاحاً سريعاً، تجلّى في الأعداد الكبيرة التي تحضر حفلات الفرقة في مدن أوروبا أو في الدول العربية. لكن، طيلة عشر سنوات، لم توضع الفرقة تحت الضوء الإعلامي، ولم تستطع أن تثير جدلاً واسعاً، إلا بعد أن أحيت حفلها الأسبوع الماضي في منتجع سيلفر ساندس في مدينة العلمين الجديدة، بالساحل الشمالي المصري، وتحديداً عندما أدّى خاير أغنية "شيّد قصورك" التي كتبها الشاعر أحمد فؤاد نجم، ولحنها وغناها الشيخ إمام عيسى منذ أكثر من نصف قرن.
أثار أداء الأغنية، وسط رواد منتجعات الساحل الشمالي المعروفين بالثراء والترف، ردة فعل واسعة بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، الذين اعتبروا أن أداء أغنيات إمام عموماً، و"شيّد قصورك" خصوصاً، بين أبناء هذه الطبقات المترفة على شواطئ المنتجعات الفارهة، يمثّل استخفافاً بالأغنية التي ترصد كلماتها مظاهر هذه التناقضات الطبقية، بالقصور المشيدة على المزارع. كما ترصد مظاهر الصراع بين القوى الثورية التقدمية وبين الأنظمة الاستبدادية المتسلطة التي تلقي بالأحرار في غياهب الزنازين، وتستبدل الحدائق بالسجون.
كانت "شيّد قصورك" حاضرة دائماً في مليونيات الربيع العربي، وفي التظاهرات الاحتجاجية في مصر وتونس ولبنان، ولها مكانتها التاريخية والأدبية والفنية بين جماهير اليسار العربي، الذي رأى أن استدعاء الشيخ إمام إلى الساحل الشمالي وعبر تلك الأغنية تحديداً، يمثّل استخفافاً بالمضامين التي تحملها كلمات صاغها أحمد فؤاد نجم، الشاعر الذي انحاز دائماً إلى الطبقات الفقيرة، وسخر كثيراً من مظاهر الترف ومن المترفين أنفسهم: "يعيش التنابلة في حي الزمالك.. قفاهم عجينة.. كروشهم سمينة".
رأى كثيرون أن الأغنية أُفرغت من مضمونها ومن حمولتها الثورية حينما أداها من ينتمون إلى طبقة لم تعرف معنى المعاناة يوماً، وكانت دائماً حليفاً أو ظهيراً للسلطة السياسية، بل إن بعض المعترضين رأى أن جماهير الساحل الشمالي الذي سماه المصريون بـ"الساحل الشرير"، هم بالفعل يتنعمون ويترفهون ويقيمون حفلاتهم في قصور وفنادق شيدت على مزارع الفقراء من أهل المنطقة. أي إن الأغنية في معناها الحرفي المباشر تنطبق على هؤلاء الذين تفاعلوا معها وتمايلوا مع إيقاعها.
للجدل الذي أثاره غناء "شيّد قصورك" في منتجع ترفيهي جذور قديمة، فالنقاش لم يهدأ منذ أكثر من قرن حول الغناء والموسيقى، ومدى أهمية حملهم دوراً رسالياً أو قيمياً. وكما انزعج كثيرون من استدعاء إمام ونجم بمكانتهما اليسارية إلى "الساحل الشرير"، يرى آخرون كثرٌ أن الغناء ليس له غاية إلا التطريب والانسجام والأنس بالأداء أو النشوة بالإيقاع، وإذا كان بعض الأغنيات جاء عبر سياق سياسي واجتماعي، فإن بقاءها واستمرارها واستدعاءها وتمتع الجماهير بها ليس مشروطاً ببقاء السياق السياسي والاجتماعي الذي ظهرت فيه.
في هذا السياق، ترى المطربة والباحثة فيروز كراوية أن الجدل الذي ثار حول تقديم أغنية "شيّد قصورك" في الساحل الشمالي يعد انعكاساً متعدد المرايا لرحلة المُنتَج الفني منذ لحظة ميلاده، وصولاً إلى تداوله في سياقات متعددة زمانياً ومكانياً وجيلياً، وفي ما يتعلق كذلك بالوسائط التي يقدم عبرها المنتج، والتحولات التي مرت بها تلك الوسائط. وفي رأي كراوية، لا يوجد مبرر منطقي يمنع من تداول أغنيات وأعمال تتناول حياة البسطاء وهمومهم لدى شرائح لا تعاني الهموم ذاتها تاريخياً، من أغاني سيد درويش إلى أفلام نجيب الريحاني ومسرحيات عادل خيري.
هذا التداول العابر للطبقة من عاديّات الفنون وليس من استثنائياتها، إذ يمكن تخيل أن هذا الانتقال يقارب بين العواطف والتصورات، ويساهم في تفهم صور المعاناة الإنسانية ليس بالضرورة بين من تنطبق عليهم بصورة حصرية، وإلا انتقلنا إلى محاكمة المنتجين أولاً، فعادل إمام لم يكن ينتمي إلى البسطاء الذين تصدروا البطولة السينمائية لعقود عبر ما جسد من شخصيات، ولا كان محمد عبد الوهاب من عشاق "عيشة الفلاح" بالضرورة.
الناقد الموسيقي فادي العبد الله يلفت الانتباه إلى موقف الفيلسوف وعالم الاجتماع والموسيقي الألماني تيودور أدورنو الذي يرى أن نظام الإنتاج ينتهي إلى تفكيك الأعمال الجديدة فعلاً وإلى استتباع شذراتها في إطار الاستهلاك الجماهيري الواسع الذي يقدمه. يشير العبد الله إلى أن استخدام أغنية للشيخ إمام في حفل للمرفهين في الساحل الشمالي لم يكن المحاولة الأولى لمثل هذا الاستتباع.
يقول: "فلنتذكر أن أولى المحاولات أرادت دمج إمام ونجم في إطار الإذاعة المصرية، أيام عبد الناصر، وتقديم أعمالهما بأصوات مطربي تلك الفترة، بهدف تقليل حدتها النقدية أيضاً. هل يمكن الوقوف مثلاً ضد هذه المحاولات؟ لا أحسب ذلك".
ويتساءل: "من يمكن أن يمنع الآن استخدام ألحان موتسارت في دعاية للشوكولا أو فيفالدي للبيتزا؟ ربما لو كان لدينا نظام أفضل لحماية حقوق الملكية الفكرية لأمكن لبعض الورثة الاعتراض. لكن أبعد من هذا الاعتراض الآني، لا أحسب أن بالإمكان المنع التام لهضم النظام الاستهلاكي حتى لما كان نقداً عالي الصوت ضده. أليست القمصان بصور ماركس وتشي غيفارا تباع وتشرى في النظام الرأسمالي؟".
ولعل من الضروري أن ينتبه من يرصد حالة "التناقض" بين "شيّد قصورك" وبين جمهور الساحل إلى صعوبة مد هذا الخط النقدي على استقامته. وإلى هذا الجانب، تشير فيروز كراوية إلى أن الملياردير المصري نجيب ساويرس كان أحد أطراف صداقة معلنة وطويلة مع الشاعر أحمد فؤاد نجم.
كما أن الفريق نفسه، المكون من فنان سوري يعيش بألمانيا، التي أتاها لاجئاً، وفنان ألماني، من الممكن -وبمنطق المعارضة نفسه- أن يصبح وجوده في المنتجع السياحي إشكالياً من وجهة نظر هواة المحاكمات من هذا النوع. ولكن من وجهة نظر أخرى، يعرف العاملون في مجالات الفنون أن آلية العمل والانتشار والاستمرار تعتمد، أساساً، على توسيع شبكات العرض، والسعي نحو الفرص الأكبر والأكثر ربحية، في معظم الحالات.
في رأي كراوية، يمكن الدفع أيضاً بأن العمل لم يقدم في السياق نفسه الذي أسقط عليه في ما بعد، ولا يحتمل الأمر هذا التأويل المفرط، فلا السياق ولا الجمهور كان مدركاً تماماً لمرامي الكلمات ولا ظروف تقديم الأغنية الأصلية.
تقترح كراوية سياقاً فنياً لأداء الأغنية بين رواد الساحل الشمالي: "يمكن تخيل أنها مجرد أغنية ضمن برنامج الفريق تحمل شحنة إيقاعية استعملوا معها إيقاعات التكنو التي تلائمها تماماً، وتحمل سمات تعبيرية حدية على طريقة الراب الذي أصبح أكثر شيوعاً، قدمت ضمن برنامج متنوع للفريق بلا تمهيد أو سياق محدد. فالأغنية الأصلية كانت موجهة إلى حاكم يمثل احتكاره الثروة خطراً على المصلحة العامة، من وجهة نظر مقدمي الأغنية الأصلية، على عكس سياق الاستقبال الحالي، الذي اتهم جمهور الحفل ضمنياً بانتهاج السلوك نفسه، وربما المطروح إذن هو تحميل المتهم بمسؤولية مشاعية لا نستطيع تعيين حدودها، ولكنها تغذي حالة عامة جاهزة لاستقبال هذه المشاعر".
توضح كراوية أن ما نسميه ترندات لحظية تستمر يوماً أو يومين على الأكثر على شبكات التواصل، هو قطعة "بازل" في سياق واسع لصراعات المواقع الاجتماعية. والمنتج الفني في هذه الحالة يمثل سطحاً لإسقاطات متنوعة، بحسب موقع كل فئة. وربما رأى بعض أصحاب المواقف فيه فرصة لتأكيد مشاعر الاضطهاد الطبقي، واتساع الفوارق الطبقية ضمن سياق أزمة اقتصادية كبيرة، وفرصة لانتزاع "تمثيل" البسطاء.
بالرغم من أن بعض محبي الشيخ إمام رحب بأداء الأغنية في الساحل الشمالي، واعتبر ذلك نوعاً من التكريم الجماهيري الذي يعد دليلاً على بقاء الشيخ وخلود فنه، إلا أن طريقة التقديم وبالتوزيع الجديد كانت بحد ذاته سبباً فنياً أزعج المهتمين بتراث الشيخ. وإلى هؤلاء المنزعجين انحاز الناقد فادي العبد الله:
"ما أحسبه تكريماً فعلياً للشيخ إمام وشعرائه إنما هو الاستماع إلى أعمالهم بتسجيلاتهم هم. بفقر التوزيع الموسيقي ورداءة الصوت، لأن ذلك يشكل جزءاً من القطيعة التي حاولوها، على صعيد الكلمة (الانتقال في الغناء السياسي من تمجيد الوطن والنظام، إلى النقد المباشر والساخر) وعلى صعيد اللحن (التراجع عن بعض أشكال التحديث في الغناء والتوزيع إلى ألحان تمزج الطرب بالكاريكاتير الصوتي وفنون الشارع والموالد الصوتية) وعلى صعيد توزيع الأعمال في حينها (الانقطاع عن التلفزيون والإذاعة وشركات الأسطوانات، والاعتماد على الغناء المباشر ولاحقاً على الكاسيت). ليس من التكريم في شيء تحويل أعمالهم إلى شذرات نعيد توزيعها أوركسترالياً، وكأنما الأوركسترا هي الأفق الوحيد للاحترام، أو أن نكررها كما هي، بل التكريم هو الإنصات إلى أشكال القطيعة التي مثلتها هذه الأعمال، والتعلم منها للبحث عما يمكن القيام به اليوم، في شكل مختلف جذرياً".
استطاع فريق "شكون" أن يثير جدلاً واسعاً حينما أدى أغنية "شيّد قصورك" وسط أثرياء الساحل الشمالي المصري، لكن ما هو أعجب من ذلك، هو قدرة الشيخ إمام على الانبعاث المتقارب في الحياة الفنية المصرية والعربية. يمكن للرافضين أن يسخروا من المترفين الذين تفاعلوا مع أغنية لم يعرفوا معانيها، لكن الواقعة وحديثها الذي ملأ الآفاق يعدان دليلاً ساطعاً على أن ما خلفه إمام ونجم هو من نوع الفن الذي لا يفنى.