شافية أحمد... سوق يا اسطى لحد الصبحية

14 اغسطس 2023
مثلت شافية أحمد بمسيرتها المتنوعة حالة ثراء فني نادر (Getty)
+ الخط -

اجتمعت عوامل عدة، لتجعل من شافية أحمد شيخة قارئة مجودة. فوالدها هو الشيخ أحمد الصايغ، مقرئ معروف هاجر من السودان إلى مصر وتحديداً إلى مدينة الزقازيق ومنها انتقل إلى القاهرة، ليسكن في حارة شعبية عريقة هي حوش قدم. هناك ولدت طفلته شافية ضريرة لا تبصر، فلم تبدأ مرحلة الصبا حتى ألحقها والدها بأحد الكتاتيب، فحفظت القرآن، والتقطت آذانها أصوات القراء والمؤذنين والمنشدين، وبالفعل، صارت شافية تقرأ "الراتب"، وهو قدر يومي من القرآن، في بيوت أهل منطقتها مقابل أجر زهيد.

لكن هذا الميدان كان أول طريقها إلى عالم الغناء والفن والإذاعة، وكانت التلاوة والتجويد سبباً لصقل أدائها الغنائي وتميز شخصيتها الفنية.

وقد انعكست ظروف النشأة على المسيرة الفنية لشافية أحمد، فكانت من أكثر المطربات أداء للأعمال ذات الطابع الديني، بحيث أن هذه الأعمال شكلت نسبة معتبرة مما غنت. لكن هذا الجانب في غنائها اتسم بالتنوع الموضوعي، فبعضه ابتهالات ودعاء إلى الله، وبعضه مديح نبوي، وبعضه يتحدث عن التوبة والإنابة، وبعضه يتحدث عن الشوق إلى مكة وأداء الحج.

ويبدو أن أحمد أرادت أن تحافظ على شخصية "الشيخة" وأن تثبت بأن لا تعارض بين كونها قارئة للقرآن وبين أدائها الغناء العاطفي والوصفي، فطاولت قائمتها من الأعمال الدينية بما لا يكاد يتوفر إلا للشيوخ المنشدين. وفي قائمتها الطويلة نطالع أغنيات: "صلوا على بدر التمام"، و"توب علينا يا إله العرش"، و"إلهي أنت جاهي"، و"يا إلهي يا مداين كل مالك"، و"الله أهدى للوجود محمدا"، و"إلهي أنت في نفسي"، و"في رحاب الطهر من روضة طه والبقيع"، و"يا أبا الزهراء روحي طوفت تبغي حماك"، و"حبيبي محمد رسول السلام"، و"شدوا الرحال مشتاق لنور سيدنا النبي"، و"أناديك يا ربي وأنت مجيب"، وغيرها كثير.

ولأنها "الشيخة" شافية، فلم تكتف تجاه شهر رمضان بأغنية أو اثنتين، بل أنشدت خمس أغنيات تترنم بقدوم شهر الصيام: "قيدوا الفوانيس قيدوا"، و"من بعد غيبة سنة جتنا يا شهر الهنا"، و"قيدوا الموادن قيدوا من طلعته ليوم عيده"، و"سمعنا صوتك يا رمضان"، و"يا بشرى حلوة يا رمضان".

لكن أعجب ما تكشف عنه قائمة أغنيات شافية أحمد، أن تلك "الشيخة" الضريرة، التي لم تر عيناها النور يوماً، كانت بين المطربات جميعاً صاحبة النصيب الأكبر من الأغنيات المتفائلة المبهجة التي تتغنى بالورود والزهور وجمال الطبيعة. لم يغن مطرب ولا مطربة من السابقين ولا المعاصرين لجمال الأزهار، ونور الصباح، ونضارة الزروع مثلما غنت "الشيخة" شافية، وتلك بعض الأمثل: "يا ورد مالك من حسنك"، و"يا زهرة البنفسج"، و"محلا الربيع هل هلاله"، و"يا ورد الربيع"، و"يا جمال الورد"، و"يا زهرة الياسمين"، و"الحياة وردة وفلة وابتسامة وشدو طير"، و"يا عاشقين الورد يا مغرمين بالورد"، و"يا رز مين في جمالك مين"، و"البطيخ حمار وحلاوة"، و"يا نيل على ميتك تسبح أمانينا".

كانت النظارة السوداء ساتراً يداري عينيها، لكن غناءها كان بصيراً، نافذاً إلى حقائق الأشياء، إلى حد أن تغني للعنب، فتصف ثماره المعلقة: "زي الدرر بتقيد ــ لولي ودهب عناقيد". صحيح أن الكلمات مسؤولية المؤلف، لكن المعنى والتوجه إذا اطّرد وتكرر في نصوص مؤلفين مختلفين، فإن البطولة هنا تكون للمطرب الذي اختار، وحرص أن تتسم اختياراته بهذه الألوان الزاهية من الأزهار والورود وجمال الطبيعة.

لم يبالغ النقاد الفنيون الذين خلعوا عليها وصف "مطربة الزهور". مع هذا التوجه إلى مباهج الحياة، والغناء المفعم بالأمل، مثلت شافية أحمد حالة ثراء فني نادر، فهي وثيقة الصلة بالتراث الغنائي القديم من الأدوار والموشحات، ومن تسجيلاتها لهذه الألوان وصلنا أداؤها لدور "القلب داب" لمحمد عثمان، ودور "سباني بسهم العين" لعبده الحامولي، وموشح "قم يا نديمي" لكامل الخلعي، كما أدت بعض أعمال سيد درويش ومنها "يا حلاوة أم إسماعيل في وسط عيالها" و"طلعت يا محلا نورها".

وهي أيضاً من أبرز من أدى المحاورة الغنائية "دويتو" مع عدد من نجوم الطرب، منهم كارم محمود، وشفيق جلال، وإسماعيل شبانة، ومحمد قنديل. ومن الطريف أنها اشتركت مع محمد رشدي في إقامة عيد للعدس، من خلال صورة غنائية كتبها طاهر أبو فاشا ولحنها محمد عمر. كما أنها تملك رصيداً غير قليل من الغناء للمناسبات الاجتماعية، مثل: السبوع "حلقاتك برجلاتك"، والزفاف "مبروك يا حتة سكرة"، و"ضحك العريس ضحكة هنا"، و"يا عروسة يا نوارة العيلة".

أعاجيب الشيخة شافية لا تنتهي، وإذا كان فقدانها نعمة البصر قد حال بينها وبين التمثيل السينمائي، فإنها كانت حاضرة بصوتها في أكثر من 20 فيلماً، منها: "عنتر وعبلة"، و"السيد البدوي"، و"قصة غرام"، و"البؤساء"، و"ولدي"، و"من الجاني"، و"أرض الأبطال".

ربما كان عريف الكُتاب أول من انتبه إلى موهبة شافية، كما كان وراء التحاقها بمعهد الاتحاد الموسيقي الذي أنشأه الموسيقار إبراهيم شفيق في حي عابدين وسط القاهرة. لكن الفتاة الصغيرة تطورت بسرعة مدهشة أوصلتها إلى ميكروفون الإذاعة في سن مبكرة. ولم تمض سنوات قليلة حتى أمست شافية أحمد ركناً من أركان الإذاعة، لا سيما فيما يعرف بـ"الصور الغنائية"، وفي مقدمة هذه الصور يأتي ذلك العمل الفريد الذي اشتهر بعنوان "الجوز الخيل" بالاشتراك مع كارم محمود وألحان سيد مصطفى الذي أدى دور سائق العربة. اشتهر هذا العمل بداية عبر الإذاعة، ثم اتسعت جماهيريته عندما أعاد التلفزيون بثه مصحوباً بصور متحركة لأبطال الصورة، واتسق الإيقاع مع خطوات الخيل. كان الكبار والصغار يتحلقون حول أجهزة التلفزيون ليستمتعوا بالمحاورة، وبصوت سائق العربية وهو يغني بصوت أجش: "الجوز الخيل والعربية... أنغامهم كلها حنية"، ليأتي صوت شافية أحمد في نضارة مطربة وهو يردد: "سوق يا اسطى لحد الصبحية".

غنت شافية أحمد صوراً إذاعية عدة، وكلها نالت استحسان الجماهير، لكن بقيت "الجوز الخيل" في مكانة فريدة، وكل الناس يعرفونها، حتى أولئك الذين لا يعرفون أغنية أخرى لشافية أحمد، بل حتى الذين لا يعرفون أنها المؤدية البطلة في هذه الصورة، مشتركة مع كارم محمود صاحب المكانة الرفيعة في تاريخ الغناء المصري في القرن العشرين.

ويمكن أن نضيف إلى "متلفزات" شافية أحمد مقطعها المميز في أوبريت الليلة الكبيرة، وهي تردد: "يا ام المطاهر رشي الملح سبع مرات... لمقامه الطاهر رشي وقيدي سبع شمعات".

كان لشفيق محمد وعلي فراج ومرسي الحريري نصيب معتبر من تلحين أغنيات شافية أحمد، لكن قائمة ملحنيها تلفت الانتباه بطولها، كما تلفت بأسمائها: زكريا أحمد، وحسين جنيد، وأحمد صدقي، وسيد مكاوي، ومحمد إسماعيل، وعزت الجاهلي، ومحمد الكحلاوي، ويوسف صالح، وسيد مصطفى، ومحمود كامل، وفريد غصن، وزكريا الحجاوي، ومحمد هاشم، وعبد العزيز محمد، وعثمان علي عثمان، وحسن أبو النجا، وعبد العزيز محمود، وصلاح الدين محمود، وعبد الغني الشيخ، ويوسف شوقي، وزكي فوزي، وخليل المصري، وعبد المنعم البارودي، وعبد الرؤوف عيسى، وأحمد عبد القادر، وعلي الفقي، وحلمي محمد الرفاعي.

بالطبع كان للمطربة دور في اختيار بعض ملحنيها، كما كان لآخرين منهم فضل المبادرة بعرض التعاون الفني، لكن الإذاعة ظلت "الوسيط الأول" والسبب الأساسي في لقاء صوت شافية أحمد بأغلب من قدموا لها ألحانهم.

ربما كان الدرس الأكبر الذي يحصله من يستمع إلى مسرد أعمال شافية أحمد، هو قدرة هذه المطربة الكبيرة على مواكبة عصرها، وتأدية مختلف ألوان الغناء السائد في حياتها الفنية التي جاوزت 30 عاماً.

نعم، هي الشيخة شافية، مقرئة القرآن الكريم الضريرة، بنت المقرئ الشيخ أحمد الصايغ، المدربة على أداء الموروث الغنائي الكلاسيكي بأدواره وموشحاته، لكن كل هذا لم يمنعها من مواكبة الموجة الحداثية العاتية والمهيمنة.

ولدت عام 1923، أي في عام انتقال أم كلثوم من قريتها إلى القاهرة للاستقرار في العاصمة، وحين تفتح وعيها الفني وهي صبية صغيرة كانت أرض الغناء قد غيرت وجهها، وتبدلت أحوالها. وحين سُئلت شافية في حوار صحافي عن أقصى أمانيها أجابت على الفور: "أتمنى أن أكون ولو ربع الآنسة أم كلثوم"، لكنها لم تستطع أن تكون ربعها ولا خمسها ولا عشرها، إلى أن رحلت في مثل هذا الشهر منذ 40 عاماً، ليس للفارق الكبير في القدرة الصوتية والأدائية فقط، ولا لاحتباس صوتها أواخر الخمسينيات بسبب المرض ثم عودته وعودتها للغناء أوائل الستينيات، ولكن لأن جماهيرية الإذاعة أخذت في الانحسار مع ظهور التلفزيون، والأخير قرر اختزال مطربة الزهور والطبيعة لتصبح فقط مطربة "الجوز الخيل".

المساهمون