في "ألفافيل" (1965)، لجان ـ لوك غودار، حَلّ العميل السرّي ليمّي كوشن (إدي كونستانتين) في مدينة ديستوبية، حيث أدّى تغوّل الحاكم وحاسوبه المركزي إلى سنّ قوانين، تمنع كلّ مَظاهر الضمير والمشاعر البشرية، وما يؤدّي إليها من فنّ وثقافة، مع وصيّة وحيدة: إنقاذ كلّ من يستطيعون البكاء.
لا يزال في مُستطاعنا البكاء، لحسن الحظّ. أو ربّما هذا كل ما تبقّى لنا، مع أنّنا نعيش في جلّ بلدان العالم حالة لا تختلف كثيراً عن أجواء "ألفافيل". يُمكننا بالتالي تسميتها "كورونافيل"، في ظلّ تأبّد إجراءات الاحتراز الصحي، التي أفضت إلى إغلاق صالات السينما، وإلغاء التظاهرات الفنية والسينمائية.
أليس منتهى القسوة أنْ يُحرَم الـ"سينفيليون"، في المغرب مثلاً، من ولوج "معبدهم"، لما يقرب من عام؟ ألم يؤدِّ خريف الفنّ الطويل والبارد هذا إلى نوعٍ من تبلّد المشاعر فينا؟
شخصياً، لم أشاهد فيلماً في الصالة منذ بداية مارس/ آذار الماضي في طنجة، حيث حضرت الدورة الـ21 لـ"المهرجان الوطني للفيلم". 10 أشهر لم تلج قدماي فيها محراب السينما، ولم أختبر تلك اللحظة السحرية، حين تنطفئ الأضواء، وتشتعل في داخلي أنوارٌ من حلم وجمال. لم أعد ألتحم مع أناسٍ لا تجمعني بهم سوى قرابة الإنسانية في طقس حالمٍ، تلفّنا فيه حظوة مصير مشترك، وأملٌ في عالمٍ أفضل. 10 أشهر كاملة، لم أنْعمْ أثناءها بحصّة "حضرة" واحدة في "زاوية السينما"، بكلّ حمولة الزوايا الروحانية في مفهوم التصوّف المغربي.
كم وددت لو أنّي عشتُ المتاهات الزمكانية لـ"تينِت" كريستوفر نولان، في صالة "موروكومول"، المُزوّدة بتقنية "آيماكس"؛ ولو استمتعتُ بجمل سيناريو "مانك" (ديفيد فينشر) البديعة، في عرضٍ مسائي بـ"قصر المؤتمرات"، في "مهرجان مراكش للفيلم". كم كان سيكون رائعاً لو جمعنا "أسبوع الفيلم الأوروبي" في قاعة سينما "الريف"، وسط كازابلانكا، حول باقة من أفلام القارة العجوز، وفي مقدّمتها "ثَمِل" لتوماس فينتربرغ، أفضل ما أتيح لي مشاهدته من محصول هذا العام الهزيل.
كان بودّي أنْ أستكشف، مثل كلّ عامٍ، تشكيلة من أروع ما أنتج في محيط البحر الأبيض المتوسط، في قاعة "أفينيدا"، رفقة أصدقاء السينما في تطوان؛ وأجدّد اللّقاء مع "سينفيليي" أفريقيا في خريبكة، لنقاشِ قضايا السينما في القارة السمراء، حتّى ساعة متقدّمة من الصباح؛ وأنكبُّ، رفقة زملائي من أعضاء "الفيدرالية المغربية لسينما الهواة"، على المضيّ قدماً في مشاريعنا الطموحة، المُقرّرة لفائدة المخرجين الهواة، في مهرجان سطات، وغيرها من المحطّات.
مبادرات عدّة سعت إلى تبديد عزلة الحجر عبر عروض افتراضية
كم افتقدْتُ "مهرجان طنجة للأفلام القصيرة في حوض المتوسّط"، حيث تقترن متعة مُشاهدة زمرّدات فيلمية نادرة بسحر مدينة ليست كباقي المدن، و"مهرجان الدار البيضاء لفنّ الفيديو"، حيث كنتُ أملأ احتياطي عامٍ كامل من روح التّجريب والمجازفة، والذهاب عكس ديكتاتورية الحبكة.
كلّ هذا تبخّر بجريرة فيروس مقيت، أتى على الأخضر واليابس من تمظهرات الفنّ، كأنّه أرسل خصيصاً ليقبض على روح كلّ تجلّيات الجمال في حياتنا.
لكنْ، لحسن الحظّ مرة أخرى، فإنّ الـ"سينفيلي" يبني في داخله، مع مرور الأعوام والمُشاهدات، بلداً، بل قارةً كاملةً من السينما، من دون حدود جغرافية، ولا تأشيرات دخول، ولا تصاريح بكشوفات صحية. الأهمّ من هذا كلّه، أنّها قارة لا نفوذ للفيروسات بأنواعها عليها. لا قوانين هناك تحدّ من حرّية التنقّل بين الأنواع والأفلام والأجواء والأحاسيس، فتكفي نقرات قليلة على الحاسوب، كما فعلتُ في أولى أسابيع الحجر، كي تنظّم في صالون بيتك استرجاعاً لفيلموغرافيا روبرت ألتمان الرائعة، التي تجسّد التوافق المطلق بين فردانية الأسلوب وفنّ تحكّم ثمين، يقبض على روح العيش الأميركي وتناقضاته التي لا تنتهي، كما في "3 نساء" و"الوداع الطويل" و"ناشفيل". أو أنْ تلجأ ـ في أزمنة انتفاء المعالم هاته، حيث يريد البعض أنْ يقنعنا أنّ بوسعهم تحقيق السلام مع إسرائيل من دون مراعاة حقوق الشعب الفلسطيني ـ إلى موقع "يوتيوب"، حيث يوفّر آفي مُغرَبي، المخرج الإسرائيلي اليساري المناهض للصهيونية، منجزه الوثائقي المبهر مجاناً، وعلى رأسه التّحفة التسجيلية "من أجل واحدة من عينيّ الإثنتين" (2005)، التي تمزج ـ كعادة مُغرَبي ـ الذاتي بالموضوعي، والأسطورة التاريخية بمشاهد مفزعة من واقع القمع والبطش الإسرائيليين، لتقول كلّ الحيرة أمام سعي ضحيّة الأمس الغريب والمفارق إلى استثمار ماضي مآسيه، كضعيفٍ أمام الرومان، للدّوس على حقوق ضعيف اليوم، ضارباً عرض الحائط بكلّ الأوهام الإنسانية المعوّلة على التعاطف المتماهي، والاتّعاظ من دروس التاريخ.
فترة كورونا كانت أيضاً فرصةً سانحةً لمراجعة الكلاسيكيات، خصوصاً تلك التي توافق أجواء وأسئلة الفترة المحيلة على الوجودية، ومساءلة طريقة عيش الإنسان. هكذا، تماهيتُ مرّة أخرى مع سؤال لاري غابنيك المتكرّر "ماذا يحدث الآن؟"، في رائعة الأخوين كوين "رجل جادّ" (2009)؛ وحتّى جملة الفيلم الافتتاحية المُقتبسة عن راشي: "استقبل ببساطة كلّ ما يحدث لك". اندمجتُ مجدّداً مع أجواء "أغاني من الطابق الثاني" (2000)، حيث يفصح الجهبذ السويدي روي أندرسون، منذ فجر الألفية الثالثة، عن فراسة مُدهشة في قراءة طالع القرن ومآسيه المغرقة في العبثية، مُتمعّناً ـ رفقة العجوز كالي، المفحوم حرفياً ومجازاً من فرط تكالب المحن والخراب المحدق ـ في كَمْ أنّ "مُهمّةَ أنْ تكون إنساناً شاقّةٌ للغاية". وقفتُ مجدّداً على هذه الحقيقة الأخيرة، بالبرهان المعجز بالجمال، بفضل مسار "باري ليندون"، صعوداً نحو القمّة ثمّ سقوطاً مدوّياً، في تحفة ستانلي كوبريك، التي يحلو للبعض أنْ يرى فيها "أوديسا الإنسان". استعدتُ وحشة المخرج المبتدئ وسط قاهرة مُكفهرّة وضبابية، في جوهرة تامر السعيد ذات العنوان الديستوبي "آخر أيام المدينة" (2016)، قبل أنْ أتابع لقاءً افتراضياً، مُثرياً ومؤثراً بصدقه، مع المخرج، سهرَتْ على تسييره وتنظيمه ريم مجدي ورفاقها النشطين في مجموعة "صاعد" للسينمائيين الشباب.
فترة كورونا كانت أيضاً فرصةً سانحةً لمراجعة الكلاسيكيات
صحيحٌ أنّ مبادرات حميدة عدّة من هذا القبيل سعت إلى تبديد عزلة الحجر، عبر فعاليات وعروض افتراضية، كما فعل "المركز السينمائي المغربي" باكراً، ببرمجته أفلاماً مغربية حديثة الإنتاج، وأخرى من التّراث لاقت صدى وإقبالاً جيداً لدى المتتبّعين، شاهدنا بفضلها أفلاماً مهمّة، كـ"موت للبيع" لفوزي بن السعيدي، وأخرى يحفّها الاحتفاء والحنين، كأفلام مصطفى الدرقاوي، و"السّراب" لأحمد البوعناني.
لكنّ الاهتمام فَترَ مع توالي الأسابيع ثمّ الشهور، فحلّت اللامبالاة، واكتست كلّ المواعيد بألوان التباعد وبرودة الافتراض، ليتّضح جلياً أنْ لا شيء يُغني عن حرارة اللقاء الحميمي، والتّبادل عن قرب.
ثم جاءت نكسة موجعة أخرى للسينمائيين المغاربة، قبل أيّام فقط، برحيل نور الدين الصايل، مُعلّم الأجيال ومُرسي أسس الثقافة السينمائية في المملكة. رحيل مفاجئ وصادم، لم أتبيّن شخصياً بعد كلّ أبعاده، لكن المؤشّرات تدلّ على أنّه يضعنا أمام نهاية مرحلة، مع كلّ ما يقتضيه هذا المفهوم من دقّة تحدّيات وجسامة مسؤولية.
في واحدة من أفضل جمل حوار "ألفافيل"، يسأل سائق التاكسي ليمّي كاشن عن وجهته، فيجيب: "إلى أقاصي الليل"، في تحية صريحة من غودار إلى معلمة سيلين الروائية الشاهقة، التي كان نور الدين الصايل يعزّها كثيراً. كيف نجد توصيفاً آخر لما عشناه عام 2020، أبلغ مما جادت به قريحة سيلين العبقرية؟
نحن بالفعل وسط رحلة في أقاصي ليل حالك وبهيم، لكنّ السينما والأدب والفنون علّمتنا أنّ أكثر لحظات الليل ظلمةً هي بالضبط تلك التي تسبق انبلاج الفجر بقليل. فلنتسلّح بالأمل إذاً، ونقتدي بوصفة العميل ليمّي ومحبوبته ناتاشا للتحرّر من "ألفافيل"، حتّى نخرج من "كورونافيل" بسلاح من دموعٍ وشعرٍ وحبّ.