سميرة القادري: كنت أحلم بأن أصبح ممثلة في المسرح الغنائي

31 ديسمبر 2021
القادري: الالتزام كما أفهمه هو الاحترام مع الذات والجمهور (العربي الجديد)
+ الخط -

تحتل المُطربة المغربيّة سميرة القادري مكانة مميزة داخل الغناء العربي. فأعمالها الفنية تكتسي بلاغة مُدهشة في علاقة الطرب بالجسد. كما أنّ ألبوماتها الغنائية ليست ترفيهية وغير خاضعةٍ لمعايير العرض والطلب، فهي تتجاوز في سموّها ورونقها هذا البُعد التجاري المحض الذي تخضع له الأغنية المعاصرة في المغرب، وذلك من خلال اللجوء إلى نوعٍ من القوالب الغنائية الأوبرالية المفقودة بخصائصها وجماليّاتها داخل الأغنية المغربيّة. وعلى الرغم من استناد القادري إلى التراث الأندلسي في صياغة مشروع غنائي أوبرالي مُتفرّد داخل جغرافيات الأغنية العربيّة، ما زال هذا الفنّ يعيش ضرباً من التهميش ونوعاً من الغربة المزدوجة المُرتبطة بهشاشة المؤسّسات الفنّية المغربيّة، بحكم غياب ثقافة هذا النّمط الغنائي الراقي داخل الاجتماع المغربي. ذلك أنّ القادري قد خطّت لنفسها مساراً غنائياً مُغايراً وأضحت من الأصوات الهامّة التي تُمثّل المغرب داخل محافل عربية ودولية، لما تتوفّر عليه من إمكاناتٍ هائلةٍ على مُستوى طبقات الصوت، هذا إضافة إلى وعيها بالمجال الغنائي الذي تشتغل داخله وتعمل دوماً على تقديمه وتطويعه على شكل مقاطع غنائية أصيلة ترجّ الجسد وتبعث في الروح مَباهج السكون والتأمّل. عن تجربتها الغنائية وواقع الغناء الأوبرالي داخل المغرب، كانت لـ"العربي الجديد" هذه المقابلة الخاصّة معها.

كيف جاء اهتمامك بعالم الموسيقى والغناء؟

بداياتي الأولى كأيّ طفلةٍ مرتبطةٍ بالمُحيط العائلي، وخاصّة أنّني أنتمي إلى إحدى الزوايا الشرقاوية القادرية المعروفة بالأغاني الصوفية النسائية، وهو ما يسمّى بـ"غناء الفْقيرات". من جهة ثانية، إنّ علاقتي بالفنّ ارتبطت بشغف والدي الذي كان مهووساً بالغناء ودائماً ما يُنظّم جلسات غنائية ولو على صعيد العائلة. فقد كُنا نعطي لذلك الدفء العائلي نوعاً من الحرّية. هذا بالإضافة إلى المدرسة، لأنّي كنت دوماً موجودة بقوّة كطفلة بعمر 9 سنواتٍ، مجنونة ومهووسة بالتجربة الرحبانية وبصوت فيروز التي أعتبرها قمّة وهرماً داخل العالم العربي، حيث ترعرعت على هذا الصوت الدافئ وعلى الغناء العميق والجميل. هكذا حفظت عن ظهر قلب أغاني الرحابنة وفيروز أيضاً، بل وكنت موجودة بالمدرسة في جميع المناسبات أجسّد وأمثّل هذه الأدوار التي كنت أشاهدها عبر البرامج. كما أنّ والدي أيضاً كان له أيضاً هذا الاهتمام بالموسيقى، حيث كان يغنّي جيداً اللون الكلاسيكي الذي نعرفه كمغاربة من الزمن الجميل. فكل هذه الأجيال أشعلت فيَّ هذه الروح والموهبة منذ الصغر وجعلتني أترعرع في طقوسٍ جيدة. بالإضافة إلى أنّ والدي، وبما أنّنا كنّا نسكن خارج المدينة بسبب عمله، كان دائماً يُحاول تنظيم بعض مَجالس الطرب والغناء والتمثيل أيضاً. إذْ كان ينصب مسرحاً صغيراً في الهواء الطلق ولنا كل الحرّية داخل العائلة الصغيرة لمُمارسة مواهبنا بكل تلقائية أمام العائلة الكبيرة. لكنْ هذا الولع سيتطوّر عبر مراحل العمر من الطفولة إلى المراهقة والشباب وسينمو بالفيروزيات والتراثيات، لا سيما الأغاني الأندلسية الغرناطية لأنّها قريبة بطابعها وألحانها، وميلودياتها جميلة جداً.

لكنْ إلى أيّ حد يُمكن للفنّان المغربي أنْ يخلق الحدث بشكلٍ مُلتزم أمام الاستسهال الكبير الذي بدأ يطبع الساحة الغنائية في المغرب؟
هو اختيار قبل كلّ شيء، فعندما نقول الالتزام، فليس بالضرورة أن نحمل شجرة الزيتون. لكنّ الالتزام كما أفهمه هو الاحترام والالتزام مع النفس والذات ومع الجمهور وما الذي ستُقدّم له من مادّةٍ غنيّة يُمكن أنْ تُذكي فيه روح الأخلاق والتفاني في الوطن والحبّ. لذلك فإنّي كمُغنّية أخذت على عاتقي ذلك وتخصصت في غنائيات البحر الأبيض المُتوسّط، كما بحثت في هذا المجال، لذلك فأنا أؤمن بهذا الاختيار رغم الصعوبات. فكيف لي أن أخلق الحدث ونحن نعرف أنّ هذا النوع من الغناء لا يُبث في القنوات المغربيّة وليست هناك أيّ برامج خاصّة في تقديم تجارب موسيقية عميقة سلكت خطاً مُختلفاً. ونعرف بأنّ جميع الوسائط البصريّة اليوم هي التي تتحكّم في هذه الاختيارات التي لا تكون صائبة، بحيث أنّك عندما تُعطي مادّة مُجترّة ومُستهلكة فأنت تخلق فتنة وشيئاً من الاستسهال لقيمة الفنّ ودوره الطلائعي في تكوين الناشئة.
وغالباً ما يُطرح هذا السؤال عن كيفية اختياري لهذا الطريق الشاقّ من ناحية الجمهور وعدم وجود معاهد عليا تدرّس هذا النوع الموسيقي، بل لا يوجد هناك حديث عن شيء اسمه الغناء الأوبرالي ذو التوجّه الأكاديمي. لذلك فأنا أخلق الحدث ولو بين المهتمّين والمتذوّقين، فهذا النوع من الغناء لا يستقطب الجماهير، وبالتالي فإنّ ممارسته تجعل منه مخاطباً بوعي لفئة معينة.

أكاديمياً، ما الدافع الحقيقي الذي قادك إلى دراسة الموسيقى وتعلّم الغناء وممارسته كفنّ داخل حياتك اليومية؟
عندما انتقلت من مرحلة الطفولة إلى الشباب ودراستي في "المعهد العالي للفنّ المسرحي والتنشيط الثقافي"، اتضحت لي الأمور بأنّه سيكون من الأسهل أنْ أطوّر نفسي وأتمكّن من أدواتي الأكاديمية. رغم أنّي لم أكن محظوظة بدراسة الموسيقى من قبل، بحكم تنقّلات والدي من مدينةٍ إلى أخرى، على الرغم من أنّ ذلك قد أغنى تجربتي ورصيدي السمعي، لأنّي كُنت أستمع بشغفٍ إلى كل موسيقى وغناء في المناطق التي ذهبنا إليها وتعرفت إلى التراث المغربي الزاخر والمُتنوّع، وهذا الأمر سيكون نقطة مُضيئة في مساري.

لكنْ حين دخلت إلى المعهد بدأت بدراسة الصولفيج والبيانو والغناء، ومن حظّي أنّي درست عند أوّل مطربة مغربيّة، هي الراحلة صفيّة التجاني، التي احتضنتني واشتغلت معي بالمفرد وآمنت بموهبتي الصوتية وقدمتني لـ"كورال" الرباط، آنذاك تعرفت إلى كل أنواع الغناء الغربي. ومنه لكي تعبر وتتخصص فلا بد أنْ تتوجه إلى الدراسة الأكاديمية، حيث بدأت بالمعهد العالي، وبعد تخرجي دخلت إلى فرقة غنائية لمدينة تطوان، وكانت لي أيضاً تجربة بإسبانيا، حيث استفدت من الدروس المُكثّفة داخل ما يسمّى بـ"الماستر كلاس" ولم أبخل على نفسي في عملية تطويرها، حيث بدا الطريق واضحاً لي داخل المعهد العالي، فقد كنت أحلم بأن أصبح ممثلة أيضاً في إطار المسرح الغنائي. لكن هذه الأشياء ستتغير عبر فرص تقدمها الحياة لنا أحيانا، واختيار المسار الأخير لحظة استقراري بمدينة تطوان.

المساهمون