رسم المخرج البرازيلي غوتو بارينتي (1983)، في فيلمه الروائي الطويل "درب غريب" (84 دقيقة، 2023)، سِمات مهمّة، وزّعها بعقلانية في مفاصل العمل، من دون أن يُشعِر المُتلقّي بثقلها أو بتوجيهها، وضَمَن بأنْ تؤدّي وظيفتها التواصلية بفعالية، وبشكل فنّي مدروس بعناية. من تلك السمات البارزة، عملية تفكيك العلاقات الأسرية والاجتماعية والفنية، في سياق معطى الثنائيات الضدّية، التي تُفرز عادة نتائج من خلال المواجهة أو الالتحام المباشر. هذا حدث في علاقة الأب وابنه، واشتباك الفرد مع السينما، والسلامة والعلّة، والأنا والآخر، وظاهر الإنسان وباطنه، وثنائيات أخرى تُحدِث صراعاً، وتُولِّد دراميات.
تشكّلت الأفعال الرئيسية، المُولّدة للأحداث، عبر شخصية البطل الرئيسي، الشاب ديفيد (لوكاس ليمِيْرا)، حامل صفة مخرج سينمائي، والعائد حديثاً إلى مسقط رأسه في البرازيل، بعد غياب سنوات طويلة، استقرّ خلالها في إسبانيا مع والدته. سبب الزيارة المُشاركة بفيلمه التجريبي القصير في مهرجان سينمائي محلي، بعد تأمين مبيتٍ له، أياماً قليلة، في فندق متواضع. لكنْ، مع اقتراب موعد المهرجان، انتشر كورونا، فقرّرت الحكومة البرازيلية، كدول عدّة، منع التجمّعات في فضاءات مختلفة، منها قاعات السينما والمسرح، ما أثار الفوضى في حياته، خاصة أنّ أيامه في الفندق معدودة، والمهرجان لن يُمدّد إقامته، والفندق أُغلق أساساً بعد تفشّي الفيروس.
ازدادت حياة ديفيد سوءاً بعد سرقة هاتفه الجوّال، فتعقّدت خططه، ودخل في دوامةٍ لا تنتهي من المشاكل، خاصة مع انقطاع تواصله مع خطيبته وأمه في إسبانيا، وبات مُشرّداً في شوارع البرازيل، في توقيت غير ملائم تماماً. ثمّ قرّر الاتصال بوالده جيرالدو (كارلوس فرانثيسكو)، المنفصل عنهم، الذي له أسلوب حياة صارم لا يريد تغييره ولو من أجل ابنه، الذي ظهر من العدم. رغم هذا، قرّر استقباله أياماً قليلة، بعد موافقته على شروطٍ، كعدم الإزعاج والتواصل، وصنع الفوضى. كلّ هذا لمواصلة مشروع كتاباته التي لا تنتهي على الحاسوب.
في تلك الفترة، تحدث مفارقات ومواقف ومقالب درامية، أفرزت معطيات لم يعرفها ديفيد سابقاً عن والده، والمتلقّي سيعرف، هو أيضاً، معطيات جديدة مع إصابة الوالد بنوبة تنفّس، إثر إصابته بكورونا.
في "درب غريب" (سيناريو بارينتي نفسه) ـ الفائز بـ"جائزة الجونة البرونزية لأفضل فيلم روائي"، في الدورة الـ6 (14 ـ 21 ديسمبر/كانون الأول 2023) لـ"مهرجان الجونة السينمائي" ـ روح عالية من الخفّة والسحر والمقالب الدرامية، خاصة مع تفكيكه العلاقة المضطربة بين الابن والأب، بعد اعتياد الأخير على نمط عيش معيّن، اختار فيه العزلة والكتابة. لكنّ المخرج الشاب، بحيويته ونشاطه وأسئلته الكثيرة، اقتحم عالمه وغَيّره، وتحديداً بعد عرض فيلمه أمام والده، الذي أعجب به، واتّضح بأنه شاهد معظم أعماله السابقة على الإنترنت. حينها، تأخذ العلاقة منحى آخر، رغم غرابتها.
أظهرت التفاصيل الصغيرة، والأسئلة والنقاشات الحاصلة بين ديفيد ووالده العجوز، أنّ لكل فردٍ فهماً خاصاً، ربما خاطئاً، عن الآخر؛ وبيَّنت أنّ لدى بارينتي دراية واسعة بهذه العلاقات. لذا، كان الحوار متناغماً ومليئاً بالتجارب والفهم الجيد للحياة، وفي الوقت نفسه كان ناعماً رغم قسوته في بعض المفاصل، تاركاً المتلقّي في تأمّل واضح، حتّى أنّه حرَّض على إسقاط أحداثٍ على حياتنا الخاصة، لفهم محطات غامضة، أو التقرّب من الآخر، لفهم وجهة نظره في المسألة.
لم يكتفِ بارينتي بالجانب الاجتماعي، بل ذهب إلى أكبر كارثة صحية في العصر الحديث وأعقدها، أي كورونا، مُقدّماً صُوراً من صوره المتعدّدة التي عكستها مشاعر الفقدان والحرمان والألم والخوف من الآخر، وإنْ كان الآخر أقرب فردٍ إلى المرء. إضافة إلى تغيير نمط حياة الناس، وقَلْبِها رأساً على عقب. كأنّ المخرج أراد تقييد الكارثة الإنسانية وتوثيقها سينمائياً، كي لا تُمحى ذكراها بسهولة، وكي تعرف الأجيال الحالية واللاحقة ما مرّ به البشر ذات وقتٍ، لأنّها مرحلة مهمّة تستحق أنْ تُعالج في أكثر من طريقة سينمائية.
تلاعَب بارينتي، بشكل جمالي، في قالب "درب غريب". استطاع إخراج فيلمٍ داخل الفيلم، الأول طويل، بأدوات كلاسيكية ونمط سينمائي معروف؛ والثاني روائي قصير، ينتمي إلى السينما التجريبية، كان بوسعه اقتطاعه وعرضه بشكل مستقلّ، من دون أنْ يفقد "درب غريب" جماليته وسينمائيّته. لكنّه أصرّ على عرض "الفيلم داخل الفيلم"، كأنّه يقول إنّ هناك مخرجين مثل ديفيد يمكن الاهتمام بهم وبما يقدّمون، ويدعو إلى التعامل معهم باحترام، لما يُقدّمونه من أعمال خارجة عن النمط الكلاسيكي، وهذه أبحاث سينمائية مهمة لخلق تنوّع في هذا الفن الواسع. ذهب بارينتي أبعد من ذلك، بإظهار كيفية تعامل المهرجانات معهم، و"رميهم" في فنادق متواضعة جداً، من دون دفع تذاكر السفر. هذا استغلال واضح لحبّهم للسينما. ذكاء بارينتي منعكس في عملية تمريره رسائل سينمائية مهمّة كهذه، خاصة أنه محسوب على صنّاع الأفلام المستقلّة. أي أنّه دافع عن خياراته الفنية، وتوجّهه السينمائي، بفطنةٍ واضحة.
هناك احتفاء دولي بهذا الفيلم، بصفته عملاً سينمائياً متلاعباً وذكياً، استطاع مخرجه تفسير رسائل مهمّة، وتحليلها وإيصالها، من دون خطابية. كما أنّه لم يجعله جدّياً بشكل زائد، ولم يضعه في قالب درامي قاسٍ، بل أودع فيه مرحاً كثيراً، وأبَانَ عن استعماله عوالم نفسية لبلوغ هدفٍ معيّن، وفي الوقت نفسه قدّم عربون محبة وعشق للسينما المستقلّة، المنتمي إليها، مُظهراً اهتماماً خاصاً بالكادرات السينمائية، واختيار مشاهد التصوير، لإظهار الفراغ الكبير الذي خلّفه كورونا في العالم، بفضل عدسة لينغا أكاسيو، لعَكْسِها مشاهد التقطت مزاج الفيلم والتحمت فيه، وكانت معيناً أساسياً له، بتوليد مشاعر قلق ديفيد وخوفه، الذي وقع في دوّامة أحداثٍ جديدة كلّياً. لهذا، كان تعامله معها طبيعياً ومضطرباً ومن دون أي تكلّف، انسجاماً مع مرجعياته السابقة، وبساطته الظاهرة في تصرّفاته.