الماضي ليس قوقعة مقدّسة

13 سبتمبر 2014
الكثير من الروايات عن قسوة نيرون تحتاج إلى تدقيق(Getty)
+ الخط -
هل يجوز ردّ الاعتبار إلى طاغية قيل في كتب التاريخ إنه "أمر بقتل زوجته، وأوعز بقتل أمّه، وغدر بابن زوجها. أمر معلّمه بالانتحار، أخصى شاباً وتزوجه. أحرق روما، وجلس يشرب الخمر، يغني ويعزف على قيثارته، ثم ألقى باللائمة على مجموعة من المسيحيين، بينهم القديسان بطرس وبولس..؟".

قبل يومين لفتت انتباهي دراسة مطوّلة للباحث روبرت داريبر، بعنوان "نيرون قراءة جديدة"، تجازف بالتشكيك في هذه التصورات التي تحفل بها ذاكرتنا، كلما قفز إليها اسم الإمبراطور الروماني نيرون، إذ يؤكد الباحث أن ثمة أسباباً قوية تدعو إلى الاعتقاد أن "مجلس شيوخ روما" هو من أمر بمحو أثر نيرون، وشيطنة صورته، لأنه كان أحب الأباطرة إلى قلوب الجماهير، وقد خرجوا مفجوعين إلى الشوارع يبكونه، على امتداد الإمبراطورية الرومانية، وظلوا يضعون الأزهار على قبره لسنوات طويلة عقب وفاته، متمسكين بحلم عودته إليهم.

قيل إن شبح نيرون سكن المكان، حتى بُنيت كنيسة فوق رفاته عام 1099، في ساحة "بياتزاديل بوبولو". نيرون هذا ألغى المحاكمات السّرية التي سادت عهدَ الإمبراطور كلاوديس، وأصدر مراسيم عفو، وكان كلما طُلب منه التوقيع على حكم بالإعدام، يقول: "ليتني لم أتعلم الكتابة". 

أطلق "المسابقات النيرونية"، وهي مباريات في الشعر والموسيقى والألعاب الرياضية، شبيهة بالألعاب الأولمبية. اقتطع من ثروات أعضاء مجلس الشيوخ، ووزعها على الفقراء. وكان من عادته أن يدعو بعض الشعراء إلى عشاء عمل، ويكرّس قسطاً كبيراً من وقته للعزف على قيثارته والغناء.

خلال عهده، شهدت الإمبراطورية سلاماً وتألقاً وإصلاحات عظيمة، لكن ما حظي برضى عامة الشعب لم يحظَ دائماً برضى النخبة الرومانية، وبدأ عصره الذهبي يتصدع تحت وطأة التوترات. "الموتى لا يكتبون سيرهم"، يقول داريبر. كان لأول شخصين كتبا سيرة نيرون (سويتونيوس وتاسيتوس)، روابط قوية مع مجلس الشيوخ، وقد عمدا إلى الإكثار من عبارات البغض والاحتقار لعهده، أما كتابات المسيحيين، فقد وصفته بالمسيح الدجّال، استناداً إلى ما جاء في سفر (أشعيا): "سيهبط من عليائه بصورة رجل، هو ملك الخطايا وقاتلٌ لأمه".

وفي العصر الحديث لدينا أكثر من نموذج فني لتشويه صورة نيرون، إذ صوّره الممثل الإيطالي (إتوريه بيتروليني) على أنه رجل معتوه وثرثار، وجسّده الممثل البريطاني (بيتر يوستينوف) مجرماً جباناً، بعد الحريق المرعب عام 64م، الذي التهم عشراً من أصل أربع عشرة منطقة.

كانت شوارع روما ضيقة جداً، وكانت تحفها أبنية مرتفعة ذات طوابق خشبية، وكانت النار ضرورية للإنارة والطبخ والتدفئة، وبالتالي فقد شهدت معظم عهود الأباطرة حرائق كبرى مماثلة، يكتب داريبر.

كما أن نيرون لم يكن في روما، عندما اندلع الحريق الكبير، بحسب المؤرخ تاسيتوس، كان في مسقط رأسه مدينة انتيوم، وهرع عائداً إلى روما، حين سمع بالخبر.

أمر بإيواء المشرّدين، وعرض حوافز مالية على كل من يسارع في إعادة إعمار المدينة، وأصدر قواعد للوقاية من الحريق، وفرضها على الشعب. عام 68م أمر نيرون خادمه أن يطعنه في حلقه، بعد أن قال جملته الأخيرة: "يا حسرة على الفنان الذي يموت بموتي"، ثم فارق الحياة وهو في الثلاثين من عمره.

كان ذلك بعد أربعة أعوام من حريق روما، وكانت أول رواية زعمت، أنه أخذ يعزف وهو يراقب ألسنة اللهب تلتهم مدينته، قد ظهرت بعد قرن ونصف من وقوع الفاجعة، كتبها شخص يدعى كاسيوس ديو.

أقنعتني مسوّغات روبرت داريبر، للتشكيك فيما لو كانت سيرة نيرون، ضحية من ضحايا انتصار النزّعة المثالية على المادية؟ التاريخ ليس قوقعة مقدّسة، ولا مسّلمة من المسلمات. هو مجرد رواية، تحتاج دوما إلى إعادة النظر، وقراءة ما بين السطور.
المساهمون