- يُعزى هذا التحول إلى رغبة الصين في استغلال الفرصة لتسجيل نقاط على حساب الولايات المتحدة، مُسلطةً الضوء على التناقضات الأميركية ومقدمةً بكين كبديل موثوق لإحلال السلام.
- يُظهر الإعلام الصيني ازدواجية المعايير في تغطيته للأحداث الدولية، مُديناً الهجمات الإسرائيلية وداعماً لموسكو في الحرب على أوكرانيا، ما يكشف عن استراتيجية الصين في تعزيز موقفها الدولي.
مع استمرار وتصاعد حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، تتبلور سياسة صينية غير مسبوقة في تغطية الأحداث في الإعلام الصيني المرئي والمكتوب. فبعد عقود من النأي بالنفس فيما يتعلق بالاضطرابات التي تشهدها المنطقة من ثورات واحتجاجات وحروب إسرائيلية، تتابع الصين عن كثب التطورات الأخيرة في قطاع غزة وتداعياتها الإقليمية والدولية، وتفرد لها مساحة كبيرة في وسائل إعلامها الرسمية. ويعزو مراقبون ذلك إلى ما يعتبرونه فرصة بالنسبة لبكين من أجل تسجيل نقاط على حساب الولايات المتحدة التي "أفضت سياستها المنحازة إلى الطرف الإسرائيلي إلى تشويه القيم الإنسانية والديمقراطية التي لطالما تغنت بها".
"الحياد" السابق
ظلت بكين لسنوات طويلة تتوخى الحذر في نقل الشأن العربي المضطرب إلى المتلقي الصيني، وذلك لحسابات واعتبارات داخلية مرتبطة بالسلم الاجتماعي في دولة اشتراكية يحكمها نظام الحزب الواحد (الحزب الشيوعي). على سبيل المثال: إبان ثورات الربيع العربي التي شهدتها المنطقة مطلع عام 2011، غابت صور الحشود المليونية المطالبة بالحرية والديمقراطية في الساحات والميادين العامة عن الإعلام الصيني بمختلف منصاته، إذ ساد اعتقاد آنذاك بأن نقل هذه الصور من شأنه أن ينقل لوثة الاحتجاجات إلى الشعب الصيني الذي يقدر بـ 1.4 مليار نسمة، وقد يساهم في تفتح الوعي الجمعي بجدوى الاحتجاج، وأن مثل هذا الحراك الشعبي بإمكانه أن يسقط الأنظمة، كما حدث في تونس ومصر واليمن.
حتى أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة في عام 2014، ظل الإعلام الصيني محايداً وانتقائياً في نقل الأحداث للمشاهد الصيني، وكان ذلك انعكاساً للموقف الرسمي من الحرب وصدى لصوت الساسة، وهو أمر انعكس بطبيعة الحال على التفاعل الشعبي مع الأحداث. ففي استطلاعات رأي أُجريت عبر مؤسسات وجهات غير رسمية في العاصمة بكين بشأن الحرب آنذاك، حمّل 71 في المائة من الطلبة الصينيين الذين استطلعت آراؤهم المسؤولية للشعب الفلسطيني في تفجّر الأحداث، واعتبر هؤلاء بأن فصائل المقاومة الفلسطينية هي التي تستدرج الاحتلال الإسرائيلي إلى دوامة العنف.
أما اليوم، فيبدو المشهد مختلفاً تماماً، إذ لا تخلو نشرة أخبار من مواكبة التطورات المتعلقة بالعدوان على غزة، وتسليط الضوء على الموقف الصيني الرسمي الداعي إلى وقف فوري لإطلاق النار، بالإضافة إلى نشر عشرات التقارير التقديرية والتحليلية للأحداث والمواقف في الصحف الرسمية الصينية بصورة يومية.
ويبدو القاسم المشترك في مواكبة الإعلام الصيني للأحداث، تسليط الضوء على التناقضات الأميركية وتصوير القوى الرأسمالية وفي مقدمتها الولايات المتحدة بأنها المسؤولة عن تدهور الأوضاع بسبب مقاربتها الخاطئة واستراتيجيتها الجيوسياسية القائمة على الهيمنة في "تصميم السلام" في الشرق الأوسط. في المقابل، يبرز بين طيات التغطية الإعلامية تقديم بكين نفسها كبديل موثوق لدى جميع الأطراف لديه القدرة على لعب دور حيوي في إحلال السلام، بما ينسجم مع مكانة الصين الدولية، باعتبارها دولة مسؤولة وعضواً دائماً في مجلس الأمن.
ازدواجية المعايير في الإعلام الصيني
في إطار السياسة التي يتبعها الإعلام الصيني في تغطية تفاعلات الحرب على غزة، ذكرت صحيفة غلوبال تايمز الحكومية في افتتاحيتها قبل أسبوعين تحت عنوان "احتجاجات الحرم الجامعي ضد سياسة الولايات المتحدة في غزة تكشف نفاق البلاد بشأن الديمقراطية"، بأن مثل هذه الاحتجاجات المناهضة للحرب هي النتيجة الطبيعية للتناقض المتزايد بين دعم الولايات المتحدة المستمر لإسرائيل في عدوان غزة، والمشاعر العامة والإيمان بحقوق الإنسان الأساسية والديمقراطية. وقالت إن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تواجه معضلة، لأن التحول في السياسة المتعلقة بإسرائيل غير ممكن، في حين أن استمرار الدعم يعني احتمالا كبيرا لحدوث احتجاجات أكثر انتشاراً وأكثر عنفاً. ولفتت إلى أن الاحتجاجات المحلية المحتدمة والإجراءات الدولية المماثلة أثبتت عزلة موقف الولايات المتحدة وعدم شعبيته بشأن هذه القضية، كما كشفت معاملة الطلاب المتظاهرين عن نفاق الحكومة الأميركية بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وفي مقالة أخرى نشرتها نفس الصحيفة في 24 إبريل الماضي، قالت إنه من المرجح أن توجه الاحتجاجات في الجامعات الأميركية ضربة قوية لإعادة انتخاب بايدن، وأشارت إلى أن الاحتجاجات الطلابية المستمرة تذكّر بالحركة المناهضة للحرب ضد تورط الولايات المتحدة في فيتنام قبل عقود. وقالت إن الأحداث الراهنة من شأنها أن تمزق المجتمع الأميركي وتجعله أكثر انقساماً قبيل الانتخابات الرئاسية في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
أيضاً في أعقاب استخدام الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضد مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي بشأن قبول فلسطين عضوا كامل العضوية في الأمم المتحدة، خرجت الصحف الصينية الرسمية بعنوان واحد "القضية الفلسطينية اختبار للضمير والقيم الأميركية". وقالت صحيفة غلوبال تايمز: "إن طلب فلسطين لتصبح عضواً كامل العضوية في الأمم المتحدة يعد خطوة مهمة في تعزيز تنفيذ "حل الدولتين"، وأن استخدام حق النقض يعكس الهيمنة التعسفية وأنانية الولايات المتحدة". وأشارت إلى أن معالجة هذه القضية تتطلب نهجاً متعدد الأطراف وشاملاً ومتوازناً، كما يتعين على المجتمع الدولي أن يلتزم بتعزيز الحوار، وتعزيز الثقة المتبادلة، وإيجاد طريق بعيد المدى يكون مقبولاً للجانبين. الأمر الذي اعتبره مراقبون تسويقياً للمبادرات الصينية ذات الصلة بالسلام في الشرق الأوسط، بعد إخفاق الولايات المتحدة في أن تكون وسيطاً نزيهاً لرعاية وإحلال الأمن والسلام في المنطقة.
نقطة التحول
يرى الباحث في العلاقات الدولية في معهد وان تشاي للأبحاث والدراسات في هونغ كونغ، ليو مينغ، في حديث لـ "العربي الجديد"، أن الولايات المتحدة هي نقطة التحول في تغطية الإعلام الصيني الرسمي للأحداث المتعلقة بالحرب الإسرائيلية على غزة، وقال إن مقارنة بسيطة بين طريقة تعاطي الإعلام الصيني مع الحرب المندلعة الآن، والحروب التي شنتها إسرائيل على غزة في أعوام 2008، 2012، 2014، سنجد أن تداخل الولايات المتحدة مع الأحداث الراهنة ودفاعها القوي عن حليفتها في المنطقة، دفع الصين إلى اتخاذ موقف قوي بدأ بعدم إدانة عملية طوفان الأقصى، ومن ثم استخدام حق النقض في مجلس الأمن ضد قرارات أميركية لصالح إسرائيل واستمرار الحرب. وبعد ذلك، استخدمت بكين ماكينتها الإعلامية لمهاجمة الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، وتحميلها المسؤولية عن خروج الأوضاع عن السيطرة، خصوصاً مع دخول إيران على خط المواجهة. وأضاف أن قوة الموقف السياسي الصيني أتاح لوسائل الإعلام الرسمية أن تغطي بشكل مكثف تطورات الأحداث، خصوصاً الارتدادات الأميركية، الأمر الذي يفسر، حسب قوله، استئثار صور الاحتجاجات بأكبر مساحة من المادة الإعلامية على حساب صور المعاناة المستمرة للفلسطينيين. وقال إن غرف الأخبار ومحرري الصحف يركزون على ما يحدث في الولايات المتحدة بفعل الحرب، أكثر مما يشغل الرأي العام بشأن صور الموت والدمار في قطاع غزة. وتابع: من المؤسف أن ينشغل المواطن الصيني بالسخرية من قيم الديمقراطية في الولايات المتحدة بعد قمع الاحتجاجات الطلابية، من دون أن يتوقف عند معاناة الأطفال الذين يتضورون جوعاً في غزة. مضيفاً أن هذه المفارقة تكشف النوايا والحسابات الصينية في التغطية الإعلامية للحرب.
من جهته، قال الناشط في مجال حقوق الإنسان المقيم في تايوان، شياو جينغ، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن الصين التي تتهم الولايات المتحدة بازدواجية المعايير، تمارس هي نفسها ازدواجية فجة في التعامل مع الحرب على غزة من جهة، والحرب الروسية على أوكرانيا من جهة أخرى. وأوضح بأن الصين تتخذ موقفاً داعماً لموسكو على حساب معاناة الأوكرانيين، وتمول الجيش الروسي بالسلاح والعتاد، في حين أنها تدين الهجمات الإسرائيلية على غزة، وتحمّل الولايات المتحدة المسؤولية بسبب دعمها غير المشروط لإسرائيل. ولفت إلى أن الأمر ينعكس أيضاً على تغطيتها الإعلامية للأحداث في كلا البلدين، حيث يتم تغييب صور المأساة في أوكرانيا عن شاشات التلفزة الصينية، في مقابل الهجوم المستمر على الولايات المتحدة واعتبارها المسؤول الأول عما يحدث في العالم بسبب سياساتها الأحادية. وتساءل عما إذا كانت الصين ستتبع نفس النهج وتتخذ نفس الموقف لو كانت إسرائيل حليفة لها أو دولة معادية للولايات المتحدة؟