عقد مضى على اندلاع الثورة السورية ضد النظام الحاكم الذي يرأسه بشار الأسد. خلال تلك الأعوام، استندت الثورة على أربع ركائز أساسية، هي: السياسة والعسكرة والنشاط الإنساني - الإغاثي والإعلام. والركيزة الأخيرة هنا، كانت أولى الركائز من حيث الترتيبات التي اعتمدت عليها الثورة لتصدير صورتها للخارج، ونقل الرواية من الضفة الأخرى المغايرة لما كان يصدره إعلام النظام للداخل والخارج، ما شكّل حالة داخل الثورة السورية، كان الإعلام سمتها الأبرز خلال انطلاق الثورة، وحتى ما بعدها، وصولاً إلى اليوم.
فيما بعد، تحولت هذه الحالة إلى شكل منظم أكثر، فظهر مصطلح "الإعلام البديل"، بعد أن أخذ النشاط الإعلامي الذي قام به شباب وشابات هواة يذهب باتجاه المأسسة، فوُلدت منصات إعلامية كبيرة وصغيرة ومتوسطة، من صفحات لها ملايين المتابعين، ومن ثم نشأت وكالات محلية والمواقع الإلكترونية واسعة التغطية والانتشار. كما برزت العديد من القنوات التلفزيونية، جميعها فتحت مجالاً واسعاً للرأي الآخر للتعبير عنه، حيث باتت أمام المتلقي السوري منابر متعددة للخبر والمعلومة، بعد أن كان لأكثر من خمسين عاماً أمام وسائل معدودة، جميعها تنطق برواية واحدة، أو موحدة قصداً، مصدرها وزارة إعلام النظام والمؤسسات الأمنية والحزبية التي تمر بها قبل خروجها إلى وسائل الإعلام أو عبرها.
أخذ النشاط الإعلامي الذي قام به شباب وشابات هواة يذهب باتجاه المأسسة، فولدت منصات إعلامية كبيرة وصغيرة ومتوسطة
ولا يمكن إغفال الدور الذي قدمته وسائل الإعلام العربية والعالمية، بفتح تواصل جديد ومن نوع خاص مع الحراك والقائمين عليه والناشطين بشقيه الإعلامي والسياسي، فكانت منبراً لهم للتعبير عن آرائهم، وعرض الرواية المحظور عرضها في إعلام النظام. كما أن تلك الوسائل استقطبت وأهّلت الكثير من الناشطين الإعلاميين، لا سيما الهواة، فدرّبتهم وصقلت قدراتهم وفسحت لهم المجال ليكونوا مراسلين لها، ما نقلهم من الهواية إلى الاحتراف.
لكن الأعوام العشرة الماضية، شهدت أيضاً تقلّبات داخل هذا المجال، أي "الإعلام البديل" الذي أنتجته الثورة السورية. فبعد أن كان محط استقطاب واهتمام ودعم دولي، تراجع هذا الدعم بشكل كبير، فتوقفت الكثير من المؤسسات وتراجع أداء ودور غيرها. وتلك التي صمدت إلى اليوم، تحاول الهروب من شبح توقف ما تبقى لها من دعم شحيح يساعدها على إكمال مسيرتها.
باتت أمام المتلقي السوري منابر متعددة للخبر والمعلومة، بعد أن كان لأكثر من خمسين عاماً أمام وسائل معدودة
صحيفة "صدى الشام" الورقية والإلكترونية هي إحدى تلك الوسائل الإعلامية التي شكّلت مع غيرها ما عُرف بـ "الإعلام البديل"، الذي نشط إلى جانب الثورة السورية. تأسست الصحيفة بداية عام 2013، وقامت على دعم المنظمات الدولية المعنية بالشأن الإعلامي والحقوقي. سعت للاعتماد على الصحافيين المحترفين، سواء الذين غادروا البلاد أو تركوا المؤسسات الإعلامية لدى النظام وبقوا في مناطق سيطرته للاستفادة من تغطيتهم للأحداث هناك، لكنها أيضاً استقطبت عددا من الناشطين الإعلاميين الذين أفرزتهم الثورة، بعد أن درّبتهم وأهّلتهم ليقدموا مادة جيدة ومستوفية للمعايير الصحافية. توقفت الصحيفة عن إصدار النسخة الورقية منها بداية عام 2019، بسبب تراجع الدعم والتمويل لها، غير أن موقعها الإلكتروني لا يزال قيد العمل، وإنما يمر الآن بفترة توقف للصيانة، واستقطاب كوادر جديدة والبحث عن جهة داعمة تمكّن الصحيفة من إكمال مسيرتها وعدم التوقف، كما حدث مع غيرها.
ويقول مسؤول التحرير في الصحيفة، ريفان سلمان، إن "الإعلام البديل في الثورة، وفي البدايات تحديداً، ألصق بنفسه أنه إعلام غير موضوعي، وهذا ما حاولنا تجنّبه عند تأسيسنا لـ (صدى الشام)، فالكثير من الوكالات والصحف والمواقع التي تأسست على يد ناشطين لم يكن لديهم أي خبرة إعلامية سابقاً، تعاملت مع تقديم المعلومة على مبدأ (الردح) بينها وبين الطرف الآخر (إعلام النظام)، فغابت الموضوعية، ما جعل المصداقية أيضاً لديها محل شكوك". ويضيف سلمان، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "دخول دعم المنظمات الدولية إلى تلك المؤسسات، شكّل عامل ضبط لسياستها فيما بعد، من خلال نقطتين: الأولى أن الكثير من الناشطين الذين تقدموا للاستفادة من دعم تلك المنظمات خضعوا لتدريبات مكثفة، الأمر الذي أدى إلى غربلتهم واختيار الأفضل، فبقي الأكفأ، وانتهى دور من لا يملكون أدوات مهنة الصحافة شيئاً فشيئاً. أما النقطة الثانية، فهي الضوابط التي وضعتها تلك المنظمات مقابل تقديم الدعم للوسائل الإعلامية السورية، ما جعل الإعلام البديل في سورية، في مرحلة متقدمة من عمر الثورة، أكثر مصداقية وموضوعية والتزاما أخلاقيا من إعلام النظام. فالمنظمات الدولية الداعمة كانت ترفض تقديم أي دعم لمؤسسة تصدّر خطاب كراهية أو تخالف مواثيق الشرف الإعلامي على سبيل المثال، وفيما بعد أصبح الوضع أفضل في هذه الناحية". ويشير سلمان إلى أنه "مع تقدم عمر الثورة، وتغير المعطيات السياسية الدولية المحيطة بها، قلّ الاهتمام الدولي بالقضية السورية، ما انعكس على واقع الإعلام البديل الذي رافق الثورة السورية منذ بدايتها، لا سيما لجهة الدعم والاهتمام والمساندة".
مع تقدم عمر الثورة وتغير المعطيات السياسية الدولية المحيطة بها، قلّ الاهتمام الدولي بالقضية السورية، ما انعكس على واقع الإعلام البديل
ماهر أقرع، صحافي شارك في تأسيس إذاعة "وطن" وموقعها الإلكتروني، ومقرها إسطنبول، عام 2012، إذ كانت من أوائل المؤسسات الإعلامية التي أنتجتها الثورة. وهي لا تزال إلى اليوم قائمةّ بعملها، لكن أقرع قرر اللجوء إلى أوروبا قبل أعوام، وهناك سعى لتأسيس صحيفة إلكترونية تحت مسمى "بروكار برس". وانطلقت الصحيفة بشكل جيد في التناول والتنوع والأداء، لكن سرعان ما توقفت. وفي حديث مع "العربي الجديد"، يفسر أقرع أنه "لعقود طويلة، كان إنشاء موقع معني بالكلمة الحرة، حلما بعيد المنال بالنسبة للسوريين، وكان هذا الحلم يراودني باستمرار، إلى أن أصبح تحقيقه بعد عام 2011 ممكناً. وهنا تقاطع الحلم الشخصي مع ما فرضته الأحداث الجارية من متطلبات عامة، أبرزها الموقع الحر.. فكانت ولادة المشروع فكرةً عام 2018، وموقعاً خرج للضوء عام 2019 من زيوريخ في سويسرا. وكوني أسّست الموقع الإلكتروني لراديو (وطن) مع بدايات الثورة، كانت هناك صعوبات كثيرة، باعتبار أن العملية كانت في البدايات، أهمها ضعف الإمكانيات والخبرات وكيفية التعامل مع الأزمات، لكن مع مرور الوقت تغير كل شيء". ويضيف: "عندما انطلق (بروكار)، كانت هناك خبرات تراكمية تكوّنت من خلال السنوات السابقة، فمن الطبيعي أن يتم تلافي ما وقعت فيه من صعوبات في تجربة الإعلام الجديد. ومع صحافيين شباب سوريين انطلق الموقع عام 2019، ومن ثم واجهنا مطبات في الوسيلة، شأننا شأن كل وسيلة إعلام. وأبرز هذه المطبات موضوع التمويل، وتأسيس كادر إعلامي مهني، في ظل تشتت جغرافي واسع على غرار الشتات السوري".
وينوه أقرع إلى أنه "خلال مراحل الثورة هناك وسائل إعلام سورية أنشئت وأغلقت، لأسباب عديدة في غالبها مالية، ومع جائحة كورونا أصبح التمويل صعبا جداً، وتوقفت الكثير من المنح، وحاولت بروكار الاستمرار، لكن الإغلاق بشكل مفاجئ، أسبابه هجمات إلكترونية تتطلب قدرة مالية كبيرة لصدّها، وهذا ما لم يكن متوفّراً". ويرى أن "كافة تجارب الإعلام بعد الثورة على اختلافها، برأيي، ناجحة، وفي كل مرحلة كانت هناك أدوات لمحاربة هذه الوسائل، ومؤخّراً من تجربة موقع (بروكار برس)، اتّضح أنّ الهجمات السيبرانية كانت في صدارة الأدوات المستخدمة ضدّ هذه الوسائل". ويطالب أقرع المنظمات والجهات المعنية بدعم وسائل الإعلام العاملة حالياً، خاصة في موضوع الهجمات الإلكترونية.
خلال مراحل الثورة هناك وسائل إعلام سورية أنشئت وأغلقت، لأسباب عديدة في غالبها مالية، ومع جائحة كورونا أصبح التمويل صعباً جداً فتوقفت الكثير من المنح
يرى يحيى العريضي، وهو عميد سابق لكلية الإعلام بجامعة دمشق، وحالياً المتحدث الإعلامي لـ "هيئة التفاوض السورية"، أنه "رغم أن الإعلام البديل كان الناقل لصرخة الثورة الأولى، بإيصال ما يجري في البلاد، والشاهد على الممارسات الإجرامية للنظام بحق المنتفضين، من خلال كونه الكاميرا الميدانية ومحطة البث الحقيقية لانتفاضة الشعب السوري، بفتح أعين العالم على ما يجري في سورية، إلا أنه لم يرتقِ لما تطمح إليه الثورة السورية، ولا لتطلعات الشعب السوري الذي قدم الكثير من التضحيات". ويضيف العريضي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "هناك جملة من الأسباب لذلك، في مقدمتها محدودية خبرة من عمل في الإعلام كناقل للصورة والخبر. إذ تصور البعض أن الإعلام مهنة من لا مهنة له، كما أن هناك ندرة في التدريب وضعفاً في التأهيل لبعض مَن انخرطوا في هذا المجال. ما ساهم أيضاً في إضعاف الإعلام البديل، هو الاكتفاء بالتغطية والنقل الميداني، وكأن الموضوع مادة خبرية تنتهي في مكانها. وجانب آخر، كانت الحالة الحماسية التي شكّلت معلما للرسالة الإعلامية المقدمة من قبل وسائل الإعلام البديل، وهذا أوقعها أحياناً في مبالغات انعكست على جانب المصداقية". ويشير العريضي، إلى أن "الإعلام المضلل لعب دورا في تشويه الصورة، فالبعض كان يعتمد الإعلام المضلل في إعلام الثورة كمصدر نتيجة قلة الخبرة، والطرف الآخر تنبّه لأهمية الإعلام. فبعد أن أُخِذَ إعلام النظام على حين غرة نتيجة عنصر المفاجأة، وكان في حالة يرثى لها، استنفرت فيما بعد كل الجبهات الإعلامية التي قدمت العون للنظام، من إعلام (حزب الله) وأبواقه، إلى الإعلام الإيراني وحتى الروسي، ثم أخذ إعلام النظام يتماسك، وبدأ يستخدم الكذب والتدليس بأسلوب محترف. وهو أساساً يمتلك بعض الخبرات التي تم توظيفها في هذا الجانب لتشويه الحقائق، وتم رصد الكثير من الأموال وجلبت الخبرات من الخارج، أما في إعلام الثورة فاصطدمت المؤسسات بالضعف المادي وعدم التخصص والمأسسة، فالإعلام مهمة صعبة، وتحتاج إلى أموال".
وينوه العريضي إلى أن "هناك بعض المؤسسات أدت ما عليها حقيقة في بداية الثورة، ثم دخلت في دوامات ركيكة أفقدتها بوصلتها، ما ساهم في التشرذم والضعف. كما أن قلة الاستقطاب للكوادر الإعلامية التي أثبتت خبرتها في مجال الصحافة بعد أن تعلمت من التجارب، كانت مشكلة في عدم إحراز تقدم أكبر في مجال الإعلام البديل للثورة للأسف". وبحسب العريضي، فإن الإعلام العالمي أفرز جانبا مهما للثورة السورية، وخصص لها مساحة كافية، لكن الظروف الدولية والتغيرات التي لحقت بالثورة وظهور تنظيمات لا تخدم قضيتها، جعل الاهتمام الدولي وبالتالي وسائل الإعلام العالمية ينصرف عن الاهتمام، وربما بات لها موقف غير متضامن مع الثورة في مرحلة من المراحل". ويختم: "بالمجمل، دخلت سورية في عالم الإعلام من أوسع أبوابه. ولحظة عودة سورية إلى حياة حرة ديمقراطية، سيكون إعلامها سلطة رابعة بحق. والفضل في ذلك لثورة الحرية والكرامة".