طفلة تغني في مؤتمر الحزب الشيوعي بجرأة، ولا تعرف الخجل. صورة لا تغيب عن أهالي قرية كفر ياسيف، شماليّ فلسطين المحتلة، حين رفع نمر مرقس ابنته الصغيرة أمل مرقس على المسرح، وقدمها لتؤدي من محفوظها أغنية احتجاجية، وسط تجمعات الشيوعيين العرب. كان هذا المشهد في السنوات الأولى من عقد السبعينيات، وكان أيضاً انطلاقة مبكرة لمطربة فلسطينية أثبتت قدرة عرب الأراضي المحتلة في عام 1948 على الصمود الفني، رغم كل العقبات.
في البيت، تفتحت أُذُنا أمل على تسجيلات محمد عبد الوهاب، وفيروز، والتراث الغنائي الفلسطيني، وروائع الموسيقى الكلاسيكية الغربية أيضاً. لكن السيرة الفنية لأمل مرقس بدأت قبل ذلك، عندما صورها التلفزيون الفنلندي وسط والديها ولم تتجاوز العامين، وهي تغني بالإنكليزية We shall overcome، بعد أن حفظتها من تكرار استماعها لإسطوانة جوان باييز (Joan Baez).
حين دخلت عامها العاشر، كان أداؤها كفيلاً بفوزها بجائزة الغناء، من قبل المحكمين والجمهور في المهرجان الفني القُطري الذي يقام في قرية طمرة شمال فلسطين المحتلة. مع الغناء المبكر، مارست مرقس أيضاًَ تمثيلاً مسرحياً مبكراً، وشاركت في كتابة اسكتشات ملتزمة لتؤديها مع الهواة من أصدقائها، قبل أن تصقل موهبتها بالدراسة في معهد فنون الأداء المسرحي.
تمثل أمل مرقس (1968) طرازاً استثنائياً في تاريخ الغناء الفلسطيني. فبالرغم من نشأتها في أسرة تنشط في فعاليات اليسار التقدمي، وبيئة تحتفي بالغناء الثوري والاحتجاجي الصريح، إلا أنها اختارت لنفسها طريقاً يبتعد بقدر واضح عن النمط المباشر للغناء الثوري الحماسي. مالت دائماً إلى إظهار الجوانب الإنسانية للقضية الفلسطينية، وانحازت دائماً إلى النساء والأطفال والمظلومين. وحتى عندما تغني للثورة، فإنها تهتم بالبعد الإنساني للثورة والثوار. وفي كل الأحوال، لن يجد المستمع في أعمالها ذلك اللون الزاعق والخطابي المباشر، الذي يرى أن الغناء للثورة يُحتم أن تدق معه طبول الحرب.
ولعل أغنيتها "ثوروا كجيفارا" التي صدرت في عام 2015، وكتبها ابنها فراس زريق، تصلح مثالاً موضحاً لطريقها الفني، إذ تقول كلماتها: "لكل أطفال الحجارة.. الذين ذاقوا المرارة.. لا تهابوا النار.. ولا تخشوا الجدار.. بل ثوروا كتشي جيفارا.. وكونوا أنتم الشرارة.. أحييكم بحرارة.. إنكم أبطال بجدارة.. لكل نساء النضال.. من الجنوب للشمال.. أنتنّ روح القتال.. شامخات كالجبال.. لكل عمال كادحين.. وغيرهم من نازحين.. أنتم نور المظلومين".
تؤدي مرقس الأغنية بلحن هادئ وضعه كارلوس بويبلا، وتغني بأسلوب فيه من التوسل الضارع والتحريض العقلاني أكثر مما فيه الحماسة الحربية المعتادة في الغناء الثوري، خصوصاً أنه عندما نقرأ كلمات الأغنية، سنعتقد أنها ستكون حماسية ولها إيقاعات متصاعدة وسريعة، لكن أداء أمل مرقس لها يخالف الشكل التقليدي والمتوقع.
أولت أمل مرقس عناية كبيرة للتراث الشعبي الفلسطيني، والأغنيات المحلية التي كادت أن تندثر. وساعدتها جرأتها على إصدار ألبوم كامل بعنوان "نعنع يا نعنع"، استمدت كل كلمات أغنياته من التراث الشعبي الفلسطيني، ومحفوظات الجدات والعجائز.
هكذا، تعاونت مرقس مع الموزع الموسيقي نسيم دكور، ليضفي على الألحان طابعاً حداثياً مع قدر من الحفاظ على "الميلودي" الأصلي، وأعادت إحياء أغنيات الزفاف والأعراس الفلسطينية، ومنها الأغنية التي عنونت بها الألبوم: "نعنع يا نعنع.. وأخضر يا نعنع.. عروسة حلوة يا ميمة.. بتقطف نعنع.. لبست قميصها.. شلحت قميصها.. أخدت عريسها يا ميمة بضُمة نعنع". استُهلت الأغنية بتنويعات من إيقاع "الزفة"، ثم توالت الكلمات بصيغة شعبية من مقام الصبا تتسم بمسحة ريفية واضحة.. لكن بعض أغنيات الألبوم، ورغم قدمها إلا أنها خرجت بلحن جديد يتسم بطابع حداثي، ومنها أغنية "الصبر يا مبتلي".
تضم قائمة الشعراء الذين غنت لهم أمل مرقس عدداً من أهم الأسماء على المستوى الفلسطيني والعربي، في مقدمتهم محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زيّاد، وفدوى طوقان، وأحمد فؤاد نجم، وصلاح جاهين. ويلاحظ من يستمع إلى ألبومها "بغني" الذي صدر عام 2011، وقفتها الثرية مع كلمات درويش، الذي غنت له: "كم البعيد بعيد"، و"مساء صغير"، وكذلك غنت له الكلمات الشهيرة "على هذه الأرض ما يستحق الحياة".
وفي ألبومات أخرى صدرت لها، غنت من كلماته: "يوميات جرح فلسطيني"، و"غريب في مدينة بعيدة"، و"انتظرها"، التي لحّنها مهران مرعب، ويقول مطلعها: "بكأس الشراب المرصع باللازورد انتظرها.. على بركة الماء حول المساء وزهر الكولونيا انتظرها.. بذوق الأمير الرفيع البديع انتظرها".
كانت لمرقس وقفة مهمة مع كلمات الشاعر الفلسطيني توفيق زيّاد، فقد غنت له عدة قصائد، منها: "ازرعوني أمل"، و"تعالوا أيها الشعراء"، و"نيران المجوس". لكن، تبقى أغنية "أكره سفك الدم"، أشهر ما غنته لزيّاد، بسبب كلماتها المعبرة، التي تصف حال الشعب الفلسطيني، الذي يكره الحرب والصراع، ويحب الأمن والسلام، لكنه يضطر إلى خوض كل المخاطر في سبيل استعادة الأرض المسلوبة.
تقول كلماتها: "أكره سفك الدم.. وصفارات الإنذار.. أكره هذا اللون الأزرق في ضوء السيارات.. أكره أن تبكي أم أو زوجة.. أن يتوجع طفل أو طفلة.. أكره أن تسقط قنبلة فوق الطرقات.. أو في ساحة بيت آمن.. أكره كل حروب الدنيا.. إلا حرباً واحدة.. أعطيها روح الروح وقلب القلب.. وأعطيها صوتي ودمي وكياني.. حرباً واحدة.. هي حرب التحرير".
من الظواهر التي لا يمكن تجاوزها في مسيرة الفنانة أمل مرقس، حرصها على الغناء المشترك مع كثير من المطربين والفنانين المشتهرين في بلدانهم وفي العالم، مثل مغني الروك البريطاني روبرت وايت، واليونانيين جليكاريه ويوديت تمير، والإيطالي إنزو أفيتابيلي، والبرازيلية ناني كاييمي، والأرجنتينية مارسيدس سوسا، والأميركي بيتير يارو، والباسكي فيرمين مغروزا، والأميركية جوان باييز، سواء كان هذا الغناء على مسارح العالم، أو ضمن أعمال سينمائية.
تصنف أمل مرقس نفسها ضمن ما يعرف في عموم فلسطين بتيار الالتزام الفني، وترى أن مصطلح "فنان ملتزم" فرضته ظروف الصراعات والحروب في فلسطين، التي أنشأت حالة من اللوم تجاه الفنانين الذين يعتزلون قضايا مجتمعهم ومعاناة شعبهم. حازت مرقس العديد من الجوائز المحلية والدولية عن نشاطها الفني أو الاجتماعي، واختارها التلفزيون النمساوي ضمن أجمل الأصوات في القرن العشرين، وكرمتها مؤسسة محمود درويش في عام 2018.
زارت مرقس العديد من البلدان في مختلف القارات، وغنّت على كثير من مسارح العواصم الغربية، وشاركت في مهرجانات فنية متنوعة، وسمعت الجماهير صوتها في الفاتيكان، والولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، وهولندا، وبريطانيا، وإسبانيا، وإيطاليا، والنمسا، وبلجيكا، وأيرلندا، وإستراليا، ونيوزلندا، وبلغاريا، واليونان، وجزر الكناري. وعربياً، شاركت في مهرجانات ومحافل غنائية في تونس والمغرب والإمارات. كبرت إذاً تلك البنت الصغيرة التي أبهرت جماهير الحزب الشيوعي أوائل السبعينيات، وكبر صوتها، لأنه اختار أن يغني للمعاني الكبيرة.