أفلام جريمة وعقاب: حرفية مهنية فقط

25 اغسطس 2021
أليسيا فكَنْدر ("بَكيت" لفرديناندو تشيلو فيلومارينو): لحظة قاتلة (جايزون كامبن/ Getty)
+ الخط -

لكلّ جريمة عقاب، والسينما أبرع مُقدِّم لهذه الثنائية، مع ميلٍ واضحٍ إلى تبرير العقاب الفرديّ لكلّ جريمة. القانون يوضع جانباً، ومؤسّسات الدولة غائبةٌ، فالثأر فرديّ، والرغبة في تعويض خسارة الفرد بفقدانه أحبّة أقوى من اللجوء إليها. أحياناً، يلجأ الفرد إلى انتقامه الشخصيّ بعد عجز المؤسّسات عن إشباع نهمه إلى الثأر والتعويض، وإلى إحقاق عدالة أرضية عبر قانون وأجهزة معنية بحماية الفرد من كلّ خطرٍ، وبمنحه حقّ العدالة، بالقانون والقضاء.

الجريمة متنوّعة الأشكال والأسباب وأساليب التنفيذ. تحصل تلبيةً لنزاعات، تتداخل فيها مصالح وصفقات وعصاباتٍ و"لوبيات"، أو لتحقيق مكاسب على حساب أفرادٍ كثيرين، فيظهر قريبُ أحدهم في المشهد، ويبدأ رحلة الثأر. أبرياء يدفعون ثمن "أخطاء" يرتكبها مقرّبون إليهم، وأشخاصٌ يريدون استراحةً من عوالم مليئة بالعنف والقتل والمطاردات، لكنّ "سلطاتٍ" ـ رسمية ومافياوية ـ ترفض هذا، فتلاحقهم.

3 أفلام حديثة الإنتاج (2021، نتفليكس) تلتقي عند ثنائية الجريمة والعقاب، وتختلف في المسارات المُسبِّبة للجريمة والمرافقة للعقاب. أفرادٌ يجدون أنفسهم وسط دوّامة من عنفٍ وقتل، وآخرون يُقتلون إشباعاً لغريزة انتقامٍ من حدثٍ قديم (هنا أيضاً يبرز الانتقام كردّ فعل على جُرمٍ، يرى الفرد ضرورة إنزال العقاب بمُرتكِبِه ولو بعد سنين مديدة). الخلفيات الدرامية مختلفة: صدفة بحتة تورِّط سائحاً في عالمٍ من تشابكِ المصالح بين السياسة والاستخبارات والعصابات ("بَكيت" للإيطالي فرديناندو تشيلو فيلومارينو)؛ ماض مليء بالكراهية والغضب، يؤدّي بامرأة إلى تصفية أناسٍ، ذنبهم الوحيد أنّهم أقارب لمرتكب جُرمٍ قبل أعوام طويلة ("جزيرة سوداء ـ Black Island" للبرتغالي الفرنسي ميغل ألكسندر)؛ تمنّع شركة أدوية عن تأمين دواء جديد لمعالجة مرضٍ سرطاني يؤدّي إلى وفاة امرأة، يجهد زوجها ثم (!) ابنتهما في الانتقام المروّع من مُسبّبي موتها ("فتاة لطيفة ـ Sweet Girl" للأميركي براين أندرو مَندوزا).

3 أسباب تؤدّي إلى مسارٍ متشابه، مليء بالعنف والمطاردة والتشويق. الخلفيات الدرامية عادية، رغم أنّ "فتاة لطيفة" يتفرّد عن الفيلمين الآخرين بتناوله موضوعاً له في المشهد العام مكانة بارزة ("لوبي" شركات الأدوية، والمصالح المرتبطة بسياسيين نافذين، وعلاقات دولية لمزيدٍ من الأرباح المالية، على حساب صحّة ملايين المُصابين بأمراضٍ سرطانية تحديداً). "بَكيت" ينتقل من رحلة سياحية في أثينا إلى مطاردة، مشغولة بحرفية مهنية، بين أمنيين يونانيين وسائح يجد نفسه فجأة في مواجهة تشابك علاقات بين السياسة والفساد والتدخّل الأميركي والارتباكات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية (اليونان). في "جزيرة سوداء"، يأتي العنف والقتل من زمنٍ ماضٍ، فالمُدرِّسة الجديدة ـ القادمة إلى تلك الجزيرة الصغيرة في بحر الشمال لتدريس الأدب الألماني لطلاب الثانوية ـ تحمل معها كمّاً هائلاً من غضبٍ وكراهيةٍ ورغبةٍ جامحةٍ في الثأر لوالدتها، التي يتخلّى عنها عشيقٌ عابر، يجعلها حُبلى بتلك المُدرِّسة، قبل طردها من حياته.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

الذاتيّ طاغٍ بقوّة، وإن يطرح "فتاة لطيفة" شيئاً من همٍّ جماعيّ، ومع هذا، فإنّ كلّ شيءٍ فيه يوحي بالذاتي والفردي. براعة الاشتغال السينمائي حاضرةٌ، فالمهنيّة والحرفية أساسيان في صُنع أفلامٍ مكتفية بالتشويق والإثارة، إلى جانب فُتاتٍ من أفكارٍ عن العلاقة العائلية والحبّ والصداقات، وعن بطش المصالح الكبيرة، وانعدام كلّ اهتمامٍ وتنبّه إلى الفرد في لعبة الصفقات. فالأهمّ، بالنسبة إلى مخرجي تلك الأفلام الثلاثة ومنتجيها، كامنٌ في إنجاز مُنتَجٍ استهلاكيّ، يُسلّي بعوالمه التشويقية ومطارداته البوليسية والثأرية، ويُشبع غريزة التنفيس عن احتقانٍ فردي، أيضاً، لدى مُشاهِدٍ، يرى في هذا النوع السينمائي متنفّساً ما.

بَكيت (جون ديفيد واشنطن) غير مكترثٍ بشيءٍ آخر سوى التمتّع برحلته السياحية مع حبيبته أبريل (أليسيا فكَنْدر). يوناس (فيليب فرواسّان) مهمومٌ بالنزاع الحاصل بين والده وجدّه، قبل أن يجد نفسه في أسوأ كارثةٍ تحلّ على شابٍ بعمره: "وفاة" جدّته، ثم مقتل والديه في حادث سيارة بعد ساعاتٍ قليلة على دفنها. رايموند كوبر (جايزون مومُوَا) سعيدٌ بحياته مع امرأته أماندا (أدريا أرجونا) وابنتهما رايتشل (إيزابيل مرسيد). أفرادٌ يريدون عيشاً بسيطاً وهادئاً، ويرغبون في مُتعٍ عادية، ويتوقون إلى سكينةٍ تُبعدهم عن غليان العالم واضطراباته. لكن العالم، بغليانه واضطراباته، يحول دون ما يريدون، فيضع كلّ واحدٍ منهم في مواجهة نفسه أمام مرآة تُعرّي اجتماعاً وأناساً، ويحرّضهم على خوض أخطر مغامرة: الثأر.

يستحيل جعل الأفلام الثلاثة منبراً لموقفٍ أيديولوجي أو فكريّ أو نضاليّ، رغم أنّ في "بَكيت" لقطات مختصّة بالوضع اليونانيّ الراهن، وإن مواربة، إذ يلتقي بَكيت شابتين تناضلان من أجل تغيير ما في المجتمع والسياسة والسلطة؛ ورغم أنّ المنطلق الدرامي لرحلة الثأر، في "فتاة لطيفة"، كامنٌ في تمنّع شركة أدوية عن توزيع دواء صالح لعلاج مرضٍ سرطانيّ. هذه جوانب يضعها صانعو الأفلام لتبريرٍ أو قول ما.

لكنّ هذه الأفلام الثلاثة معنية بالتشويق والمطاردة والنزاعات والعنف، وهذا كافٍ لها.

المساهمون