"60 دقيقة"... نساء حول الطبيب النفسي

19 أكتوبر 2021
العمل من بطولة ياسمين رئيس ومحمود نصر (فيسبوك)
+ الخط -

لنفترض أنّ الدراما هي مغامرة يدخل فيها الجمهور في حالة سباق مع الشخصيات للوصول نحو المتعة، فهنالك مرات سيتوقف المشاهدون عن السباق، ويعزفون عن المتابعة مع غياب التشويق. في مراتٍ أخرى، سيصل الجمهور قبل الشخصيات التي يشاهدونها، وذلك حين يكشف المتفرجون أسرار الحكاية، وتتضح معالمها وشكل النهاية بسهولة، وقد تصل الشخصيات ولا يصل الجمهور، إذا حمل المسلسل تعقيداً وتفسيرات غير منطقية للأحداث والشخوص.

لكن، هناك سباق مشوق قليل ما يحدث في الدراما العربية، وهو التواتر في الفوز بين الجمهور والشخصيات، وهذا ما حدث في سباقٍ مدته الزمنية داخل القصة 60 دقيقة، وفي شكلها الخارجي تسع حلقات درامية، عبر مسلسل "60 دقيقة"، للكاتب محمد هشام عبية، والمخرجة مريم أحمدي.

المسلسل الذي أعدّ بصمت في بيروت، من دون ترويج هائل وبذخ في الإنتاج، تخطى التوقعات، بل كاد أن يهزم جميع إنتاجات شركة "الصباح" اللبنانية في الآونة الأخيرة، ويتخطى الصدى مع باقي الأعمال الدرامية في حالة تريند صحيحة، صنعها المسلسل مع إعجاب من الجمهور العام، وليس حكراً على فانزات أبطال المسلسل، كما يحدث في العادة.


يروي المسلسل حكاية الطبيب النفسي "أدهم نور الدين"، الذي اختارت والدته "د. نوال" أن تبرمج له حياته منذ الصغر، وحملت في صدرها سر الاضطراب النفسي لدى ابنها، ليتحول الاضطراب الدفين إلى مرض سيطر على صاحبه المتنكر بزي طبيبٍ ناجح، يظهر على شاشة التلفزيون ويحارب كافة الشائعات السلبية ضدّه، بإدراجها تحت نظرية المؤامرة والاستهداف المقصود لنجاحه.

العنصر المقابل لأدهم، هو زوجته "ياسمين الشيّال"، خريجة كلية الاقتصاد، التي اختارت صعود السلم الاجتماعي بزواجها من طبيب نفسي ابن عائلة مرموقة، لتكتشف مع مرور السنوات الوجه الخفي للثراء والشهرة، ومحاولة الالتفاف على شائعات ضرب السمعة، لإثبات تماسك مزعوم، يخفي خلفه مجموعة من الأسرار تبدأ "ياسمين" في البحث عنها، وتتقدم ثم تتراجع، تصدق زوجها مرة، وتكذّبه مرات أخرى، لتقدم الفنانة المصرية ياسمين رئيس دوراً أقرب إلى الصامت، تكلمت فيه بملامح وجهها ولغة جسدها أكثر من الحوار، فكانت المستمعة لرواية أخرى خارج الصورة المزخرفة التي رسمها زوجها وحاولت تصديقها، ثم فشلت.

وبذلك، تركت رئيس للفنان السوري محمود نصر مساحةً أوسع للعب، وإتقان الأداء في أول تجربة مصرية يقدمها الممثل القادم من دمشق، حيث أثر في الجمهور السوري بشخصية "عروة الغول"، ضمن مسلسل "الندم"، وتعرض بعدها لانتقادات أنّ لعنة الدور أصابته، ولم يتمكن من الخروج منه في الأعوام التالية، ليصدم نصر الجمهور بتقمص شخصية "أدهم نور الدين" بإيماءات وجه لم يلاحظها المتابعون من قبل، والانتقال في مسار الشخصية بين دور الطيّب الذي يداوي المتعبين نفسياً، إلى الوحش الذي ينهش لحم المرأة التي تلجأ إليه لإخراجها من كآبتها.

سينما ودراما
التحديثات الحية

وبذلك، تحولت العيادة النفسية إلى مسرح لأحداث كثيرة، وكأنها الملعب الحقيقي لصراع الشخصيات بين موقع جريمة الاغتصاب، والمكان الأكثر أمناً للتحرش بالنسبة للطبيب "أدهم"، ومساحة حرة لانتحار إحدى المريضات بعد فشلها في مواجهة واقع حياتها، لتنتقل الحكاية في نهايتها إلى منزل "أدهم"، وهناك جرت جلسة العلاج النفسي الأخيرة، بمؤقتٍ زمني لمدة ستين دقيقة، صارح فيها "أدهم" زوجته "ياسمين" بما يراه، فما كان منها إلا أن صنعت موقعاً جديداً للجريمة، والتخلص من زوجها بانتقامٍ صارخ لكافة النساء اللواتي مررن في حياته، وكنّ ضحايا منطقه الطبي الخاطئ.

وبذلك، عبَر المسلسل إلى مستوى أعمق من الدراما، حيث حوّل الشخصيات إلى واجهة لميادين عمل في الحياة، فطرح أسئلة مبطنة عن دور الطب النفسي، ومحاولة استغلاله من قبل بعض الأطباء لغاية مصالحهم الشخصية، والندوب التي يتركها العلاج الخاطئ، وقابلَ ذلك بنقاش ميدان الطب النفسي في قاعة المحكمة، حيث وقفت محامية "ياسمين" للدفاع عن موكلتها، ومحاولة تخفيف الحكم. وهنا كان التصعيد الثاني للحدث الدرامي بعرض وجهة نظر القانون وذكوريته في الأحكام، إذ لم ينظر القاضي إلى "ياسمين" كضحية من ضحايا المجرم الأول، زوجها، وما فعله بنساء من قبلها، بل كمجرمة فقط.

يحسب للمسلسل تميّز القصص الفرعية المساندة للقصة الرئيسية المرتبطة بالطبيب "أدهم"، وخصوصية طرح الشخصيات النسائية، ومعاناتهن في مواجهة المجتمع، ليكون كل مشهد في "60 دقيقة" مسرحا لصراع درامي يؤثر في البنية الكاملة للحدث، ويتفرد بكونه خاصاً عن غيره، لينسج العمل بأبطاله وصنّاعه حكاية درامية بعيدةً عن صخب الترويج، عميقةً في رسالتها النفسية وناضجة بقدر التفكير بسؤال مفاده: لماذا لا تقدم الدراما العربية أعمالا كهذه دائماً طالما تستطيع فعل ذلك؟

المساهمون