"للموت": شخصيات ثانوية تخطف البطولة
تختار عدسة المخرج اللبناني فيليب أسمر، في المسلسل الدرامي المشترك "للموت"، التنقل بين عالمين متناقضين من حيث البيئة، ومتقاطعين في الأحداث والبناء الدرامي. حكايات الواقع اللبناني تغلب على الطابع العام للمسلسل، وتجرّ المشاهد اللبناني إليها أكثر من ما تفعل الحبكة الرئيسية فيه.
وإن كان نجاحُ اختيار القالب الدرامي، بقصصه وأدواته وسرديته، مرهوناً بوجوه أبطاله الرئيسيين، فإننا نعتكف عن التمحيص فيه لمصلحة الشخصيات الثانوية التي حملت أعباء الواقع اللبناني المتردي اقتصادياً ومعيشياً. الحكاية ما أن خرجت من قبضة التمهيد بعد الحلقة الثانية، حتى أخذت تبني أعمدتها السردية، وتسقف لنا جدرانها بحبكات وأحداث موجزة حصرت نفسها في دائرة التشويق والصراع، ولو على حساب غياب الغموض الهش.
فعامل التكهن مرتبط بمناورة مستهلكة سبق للشاشات أن عرفتها. قصة بطلتين تلاحقان الأثرياء وتوقعان بهم. تتزوجا،ن ثم تتطلقان بعد حصولهما على النفقة، هي من القصص المستهلكة التي عادة ما تندرج تحت إطار الرومانسية الكوميدية. غير أن طابع القصة هنا أكثر جدية وتأزماً، لغاية يراد بها خلق واقع رديف لواقع الشارع اللبناني. وهو ما دفع لظهور واقع درامي نستطيع وصفه بالرديف، بعدما سحبت أحداثه حكاية "سحر" (الممثلة ماغي بو غصن)، و"ريم" (دانييلا رحمة)، من مضمونها، عن غير قصد، لتكون حكايات أهل الحي الفقير وتفاصيل حياتهم أكثر تعبيراً وملامسة لهموم المواطن اللبناني، ولا سيما تلك التي يعانيها منذ انهيار الوضع الاقتصادي والمعيشي خلال العامين الأخيرين، من هموم العالم الآخر لحياة "سحر" و"ريم".
في هذا الحي الفقير صور عدة قد تبدو هامشية في سياق الأحداث، ولكنها تختزل هموماً بات التداول فيها من يوميات الشعب اللبناني. على رأس هذه الصور، انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار، وتبعات ذلك على حياة المواطن. فعائلة "محمود" (وسام صباغ)، تمنح انطباعًا مناسباً يحاكي في تفاصيله هموم الأسر اللبنانية، انطلاقًا من الشباب المتعلم الذي لا يجد لدراسته موطئاً يستفيد منه وظيفياً فترزح طموحاته تحت وطأة الواقع ومقصلته. فـ"محمود"، خريج المحاسبة والابن الوحيد لأبويه، ستوهنه متطلبات الحياة. فنرى مشهداً للثلاجة الفارغة من الطعام وانقطاعاً لخدمات التلفاز والديون المتراكمة من جهة، وجهاز التنفس الخاص بوالده وتكاليف شرائه أو استبداله الباهظة الثمن من جهة أخرى.
واقع مؤلم وصادق في طرحه، يجعل من شخص "محمود"، الخلوق واللطيف، شخصاً مجرماً، بعدما لجأ مكرهاً لإخراج والده من المستشفى ودفع تكاليف علاجه، إلى سرقة سيارة وتفكيكها وبيع قطعها. هذه المعالجة طرحت بكامل تفاصيلها، فنرى "محمود" وهو يجول هائماً بين الطرقات، حاملاً جهاز التنفس الخاص بوالده، والصراع الأخلاقي الذي يعتمل في صدر "محمود" أمام السيارة المسروقة.
وكذلك تنجح شخصية "ساريا" (كارول عبود)، وزوجها "أمين" (فادي أبي سمرا)، بتسليط الضوء على العائلات المتهالكة والمتضعضعة وارتباط المكان بالذاكرة وتزويج الفتيات القاصرات للمنفعة المادية، وغيرها من أمور تصب في خانة البحث عن لقمة العيش التي تفوق التصور الأخلاقي للأسر المتوازنة إذا ما قورنت بحياة هذه الأسرة وهمومها أمام واقع تعيس وجاحد، يتطلب تضحيات لا حدود وضوابط لها، في سبيل مجاراته.
أما عن شخصية "عبد الله" (أحمد الزين)، فهي نسخة ملطفة تصنع توازنًا إنسانيًا في الحي. "عبد الله"، الرجل المسن اللطيف الذي يملك محل بقالة صغير، نراه يراعي ضائقة أبناء حيّه أمام أزماتهم المالية والعاطفية والنفسية، يقدم مساعدته من دون مقابل في كثير من الأحيان. وهي شخصية موضوعية تعكس حالة التكافل الاجتماعي التي تتصورها كاتبة العمل نادين جابر، إلى جانب شخصية "حنان" (رندة كعدي) التي لا تختلف عن شخصية "عبد الله" بلطفها ورقتها.
شخصيات هذا الحي الفقير، وإن كانت تدور في حبكة جانبية، ستمهد لنا الطريق للدخول إلى حياة الأغنياء وعالمهم، أثبتت وجودها ومقدرتها الأدائية بقدر يزيد عن الشخصيات الرئيسية في الحكاية. ولا نعزو هيمنة أدائها على أداء البطلتين الرئيسيتين للخبرة والمقدرة فحسب، بل لهيمنة الحكايات الواقعية التي يحتاج المواطن اللبناني لرؤيتها دونما عبور إلى الحكاية الأساسية الدائرة في عالم الأثرياء التي غدت ضرورة درامية لخلق الصراع، وتوسعة الأحداث، في سبيل نجاح العرض والصورة مقابل الألم والفقر.
ولعل ذلك هو ما جعل كل من شخصية "هادي" (الممثل السوري محمد الأحمد)، زوج "ريم"، رجل الأعمال الثري، وشقيقه "باسل" (الممثل السوري خالد القيش)، خليل "سحر" التي تعمل وكيلة عقارات، تدوران في فضاء البطلتين وعالمهما الخاص درامياً، من دون تأثير وظيفي يضاهي أمام موقعهما كأبطال مشتركين، حجم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية المراد تسليط الضوء عليها في الجانب الآخر. وبذلك اكتفى وجودهما كعامل مكمل إنتاجياً يخدم الحبكة الرئيسية ويعزز من فصل الواقع بين الطبقتين على حسابهما وحضورهما، ما سمح بارتفاع واقعية أداء أبناء الحي الفقير وحضورهم.
وإن تعرفنا، في سياق الزمن النفسي للأحداث على ماضي "سحر" و"ريم"، وهو ماضٍ يراد به تصوير عالم قاسٍ يبرر جريمة الفتاتين اللتين تربتا في مأوى الأيتام، ثم قررتا الهرب والانتقام من الرجال الأغنياء من دون أن يكون هناك رابط نفسي ومنطقي يدفعهما لدخول عالم الأثرياء من وجهة نظر الكاتبة، سوى الفقر والذل. وهذان سببان قد يكونان كافيين في نظر الكاتبة.