"سباركس براذرز"... أخوّة في الجنون والموسيقى

13 اغسطس 2021
كانت تُدعى بـ الفرقة الأقرب إلى قلوب الموسيقيين (مايكل بوتلند/Getty)
+ الخط -

حين يُمسي ألق الفنان وراءه، عند بلوغه سنّاً كبيرة، أو إثر اعتزاله أو تقدمه بعيداً في مشواره، تصبح آثاره الفنية حاضره. أما حياته الراهنة؛ فهي الماضية. والمستقبل، ما هو إلا مرآة تعكس وهج الأمس. 
لعل ذلك ما أراد المخرج إيدغار رايت Edgar Wright الإشارة إليه، من خلال فيلمه الوثائقي الموسيقي، "الأخوة سباركس" Sparks Brothers، الذي صدر شهر يونيو/حزيران الماضي، حين جعل من اللقطات التي تصور كلا من عضوي الفرقة سباركس Sparks الأخوين رون وراسل مايل Ron & Russel Mael في اللحظة الراهنة، إضافة إلى الضيوف والأصدقاء بوضعيات استجوابية وبالأبيض والأسود، فيما استعاد أرشيفهما الزاخر بالمقابلات التلفزيونية ومقاطع الفيديو الموسيقية والحفلات المصورة بالألوان الزاهية البهية. 
أما الفرقة ذاتها، فهي مزيج ساحر من الغرابة والتناقض المجبول بالسخرية العدمية والخيال الإبداعي الخصب. زمان السبعينيات، كان مظهر كل من رون وراسل بعيداً عن المألوف كل البعد. بدا رون، المغني، طويلاً نحيلاً، له خامة هوائية أقرب إلى الأصوات الإلكترونية، تُمكّنه من القفز بين الطبقات بحرية تكاد أن تكون غير- آدميّة. أما راسل، كاتب ومُلحّن الأغاني، فتراه يجلس خلف آلته الكيبورد، ضجِرا غير عابئ بالصخب الذي يجري من حوله، وقد اعتلى شفته العليا شنب يُذكّر بصور طغاة القرن العشرين. 


من حيث الأسلوبية، يتسم الثنائي بمقدرة استثنائية على العبور بحرية من أسلوب إلى أسلوب، مُصنف إلى مصنّف، ومن لون إلى لون. قد تبدأ إحدى الأغاني بمزاج أقرب إلى البوب، عبارة عن عدة سلاسل هارمونية على آلة الأورغ أو الكيبورد. ثم فجأة تعصف الأجواء بضرب على أوتار الغيتار الكهربائي وطبول الدرامز، لتتحول الأجواء إلى هارد روك يصم الآذان ويجعل الجمهور يقفز من على المقاعد. غرابة الأطوار تلك، وذلك المس المبدع والرفيع من الجنون، جعلت من سباركس مقصداً لما بات يُدعى بـ الموسيقى الجماهيرية الفنية Art Pop، وهي موسيقى بوب نخبوية تعمل على المزج الأسلوبي والرمزية الفنية، غالباً ما تدخل ضمن فنون بصرية، كالفيديو المصور ونصب الأعمال الفنية في الفراغ Art Installation.
خصوصية فرقة سباركس تُمكِن مقاربتها من عدة زوايا. أولها، حقيقة أن ما له قيمة فريدة وتأثير عميق في الفن والثقافة مرّات، خصوصاً في عصرنا المغرق بآليات التسويق والتسليع، ليس بالضرورة أن يحصد الشهرة ويحظى باهتمام الجمهور الواسع العريض، وحتى في بعض الأوقات نادي النقاد الضيق، الانتقائي والمختص. 
سبارك، التي كانت تُدعى بـ "الفرقة الأقرب إلى قلوب الموسيقيين"، رغم العُمق والتفوق في المعالجة والخصوبة الإبداعية التي ميّزت كل أعمالها، ليس على صعيد الموسيقى والغناء فحسب، وإنما الفكرة والبنية الجمالية وحتى روح الدُعابة الاستثنائية، لم تبلغ أيّ من الشهرة التي كانت لفرق أقل شأناً وأخفّ تأثيراً بما حولها. 

الجانب الآخر المُميز لهذه الفرقة، هو أن عضويها أخوان لأب وأم. رون وراسل اللذان غالباً ما يعتقد الناس أنهما من أوروبا، وذلك بسبب أسلوبهما البعيد عن الطراز الأميركي المألوف؛ قد ولدا في لوس أنجليس لأب يشتغل بالفن توفي مبكراً، فيما كان لاهتمام الأم بإدراك آخر صيحات الموسيقى لجيلها الأثر الكبير في ميول الأخوين تُجاه العمل سوية ضمن فريق موسيقي. 
وظاهرة الأخوة في الموسيقى لم تكن يوماً بطارئة أو عابرة. كيف لا، وصلة القربى تلعب دوراً جلياً في حيوات معظم الموسيقيين. سواءً، أكانت الميول الموسيقية مكتسبة وراثياً أو سلوكياً بفعل البيئة العائلية والاجتماعية. بالنسبة للوراثة، فقد بات مما لا يدعو إلى الشك بين العلماء أن الجينات لها فضل على بزوغ الموهبة الموسيقية لدى الأطفال. 
ففي دراسة أجريت سنة 2008، أفضت نتائجها إلى واقع أن الميول الموسيقية متوارثة بنسبة خمسين بالمئة. فيما توصلّت دراسة سابقة في سنة 2001 إلى أن النسبة قد تصل حتى الثمانين بالمئة. أما البيئة من حيث اهتمام الأبوين بالموسيقي عزفاً واستماعاً، سواءً أكانا هاويين أو محترفين، فسيُعزز بالضرورة ذات النوع من الاهتمام لدى الأخوة الصغار وبذات الدرجة. بمعزل عن فارق الجنس أو العمر. 
في الماضي، وفي مجال الموسيقى الكلاسيكية، تبرز أسرة باخ الألمانية كواحدة من أكثر الأسر تأثيراً في تاريخ الموسيقى العالمية. ليس فقط لاسم واحد من أفرادها، يُعد من الأعلام، وهو يوهان سباستيان، بل أيضاً لإخوته، كـ يوهان كريستوف الذي ربّى سباستيان، بعد أن أمسى يتيماً في سن التاسعة، وعلمه مبادئ العزف على الأورغن والكتابة له. سيكبر يوهان سباستيان ويُنجب عشرين طفلاً. سبعة منهم على الأقل سيلمعون موسيقياً في عصرهم. 

يتسمان بقدرة استثنائية على العبور بحرية من أسلوب إلى أسلوب

إبان الحقبة الرومانسية، وفيما اسم فليكس مندلسون بارثولدي Felix Mendelssohn Bartholdy 1809-1847 ما زال يُذكر حتى اليوم من بين المؤلفين الكلاسيكيين الكبار، إلا أن البعض من عشاق هذا اللون لعلهم لم يسمعوا قط بأخته الكبرى فاني Fanny 1805-1847، التي تتلمذت، هي وشقيقها الصغير على يد ذات الأساتذة. قد أنجزت فاني قرابة الخمسمئة عمل. وكانت بصدد نشر بعضها، لو لم يغيبها الموت وهي في مقتبل سن الأربعين، فلا يعلم ما كان مصيرها التاريخي ومنزلتها بين المؤلفين، لو قُدر لها أن تعيش أمداً أطول.  
أما موسيقى البوب، فيبقى فريق جاكسون، المكون من جاكي، تيتو، جرماين، مارلون ومايكل الظاهرة الأخوية الأشهر في القرن العشرين. الفريق الذي اشتهر بـ "جاكسون 5"، وتأسس سنة 1964، صار واحداً من أيقونات الـ R&B الراقص. إضافة إلى مشاركته بمعظم العروض الترفيهية على شاشات التلفزيون الأميركية. وذلك، قبل أن يأتي لعالم الموسيقى والاستعراض بالأسطورة الخالدة مايكل؛ الموهبة التي غيّرت البوب والصناعة الموسيقية إلى الأبد. 
أما اليوم، فإن شراكة الأخوة في الفن ما تزال تُثمر قصص نجاح مميزة. أحدثها تلك التي لـ بيلي آيليش وأخيها الأكبر فينيس، الذي كان يكتب الأغاني وينتجها لسنوات، قبل أن ينتبه إلى موهبة أخته، فيبدآن سويةً مسيرة فنية، تُعد الأنجح في الوقت الراهن.

من هنا، لا يُعد فيلم إيدغار رايتس عن ثنائي سباركس توثيقاً جذاباً لفريق فريد في أطواره الفنية والشخصية وحسب، وإنما يروي أيضاً سيرة أخوة في الفن، جعلت من صلة الرحم وشراكة المنزل قوة إبداعية دافعة ومحركة أثرت وتؤثر على أجيال من المريدين المعجبين.

دلالات
المساهمون