الصور الآتية من سراقب اليوم، بعد أن سيطرت قوات النظام عليها، خالية من الألوان، عكس ما اعتادت على رؤيته الأعين من كل ما هو قادم من سراقب قبل ذلك، رغم القصف والقتل والتدمير. إذْ فور سيطرة قوات النظام إلى جانب مليشيات إيرانية، وبإسناد جوي روسي على سراقب، بدأت تلك القوات بحملة ممنهجة لنهب المدينة و"تعفيشها"، أو لنقل "تعفيش" ما بقي منها. إذ حولت الطائرات الروسية ومدفعية النظام، الكثير من أحياء سراقب إلى ركام، بفعل القصف الهمجي والوحشي طوال السنوات الماضية، إلا أن نصيب المدينة من القصف والدمار، كان مضاعفاً عشرات المرات خلال الأيام الأخيرة، والتي سبقت دخول قوات النظام إليها، مستخدمةً بذلك سياسة الأرض المحروقة. إذاً، هكذا هي سراقب الآن، مدينة حزينة، فاقدة لأبنائها وألوانها، وكل ما هو جميلٌ فيها. لكن كيف كانت سراقب قبل ذلك؟
"حيطان سراقب"
اشتهرت سراقب منذ بداية الثورة بجدرانها الملونة، أو ما عرف بظاهرة "حيطان سراقب" التي حملت على أحجارها عبارات ورسومات باستخدام فن "الغرافيتي"، لتوجيه بوصلة الثورة في المدينة نحو السلمية والتآخي وتعزيز قيم التعايش، إلا أن تلك الرسومات والعبارات، اخترقت جدران سراقب، حتى وصلت، من خلال وسائل التواصل، إلى السوريين جميعاً، بل وحتى العالم. ويقول الفنان سومر كنجو وهو أحد رواد فكرة "حيطان سراقب"، إن "صاحب الفكرة هو الصديق رائد رزوق، واتّجه إلى الفكرة بعد أن كثرت الكتابات العشوائية على جدران سراقب من قبيل: ارحل، يسقط بشار، يسقط حزب البعث... إلخ. آنذاك ارتأى رائد (وهو خطاط) أن يصنع شيئاً مختلفاً، شيئاً وجدانياً، كأن يكتب بعض العبارات الرمزية المؤثرة، والأبيات الشعرية المنتقاة ليخاطب بها سكان المدينة بأسلوب حضاري جميل. ثم اقترح على بعض الأشخاص الذين يجيدون الرسم أن يساعدوه، ويعبروا هم أيضاً عن قضايا الحرية والعدالة والغضب والطفولة والأدب والألم والثورة، وتشاركنا جميعاً في الفكرة". ويضيف سومر في حديثه لـ"العربي الجديد": "لم يخطر في بالنا بداية الأمر أن تنتشر الكتابات والرسومات في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. إذْ كان اعتقادنا أننا نخاطب سكان المدينة فقط، وننفّس عما بداخلنا. إلى أن أنشأ أحد الأصدقاء صفحةً على فيسبوك باسم (حيطان سراقب) وبدأ بنشر الأعمال عليها، الأمر الذي أسعدنا من جهة، وزاد التحدي والمسؤولية علينا من جهة أخرى، كون الجمهور قد كبر ليشمل كل سورية، فهذا أمر دعانا لدراسة أكثر، وتفكير أطول، في تأثير العبارات على المدن الأخرى وعلى المؤيدين والمعارضين والنظام والجيش وحتى (الشبيحة)، فكانت بعض العبارات المفتوحة التي تخاطب الجميع". وبعد دخول قوات النظام إلى المدينة يرى سومر، أن "هذه اللوحات من المؤكد أن الجيش سيراها بعد اقتحامه المدينة، وهي عبارات ورسومات خالية من أي عنف أو دعوة له أو للثأر. عبارات ورسومات تطلب من النظام والجيش التوقف عن القتل والتدمير، تتضامن مع بقية المدن التي دمرها الجيش من درعا وحتى سراقب. ربما ستكون تذكرة للمجرمين بما اقترفوه طوال هذه الطريق، حتى وصلوا إلى هنا، للوقوف والنظر إلى هذه الجدران والشواهد الأخيرة".
"تجمع شباب سراقب"
حركة المسرح والدراما كانت حاضرة بقوة في سراقب خلال أعوام المسرح، من خلال عشرات الأعمال الفنية التي كان أبطالها شباب المدينة، من محترفين أو هواة في هذا المجال، والذين لم يحصروا نطاق فنهم بمدينتهم، بل جالوا به في كافة المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، سواء من خلال تقديم العروض المسرحية، أو انتشار الأعمال الدرامية على وسائل التواصل. ومعظم هؤلاء ينضوون تحت منصة سموها "تجمع شباب سراقب" الفاعلةً بقوة في المجال الفني.
ويقول أحمد الخطاب، وهو ممثل ومخرج مسرحي ضمن التجمع في حديث مع "العربي الجديد"، إنه: "منذ بداية الثورة، التي كانت بالنسبة لنا ثورة على كل شيء وكل ما سبق، إذْ كنا نعاني كمسرحيين من الرقابة الأمنية على عملنا، وبعض نصوص المسرحيات كانت تحتاج لأربعة أشهر أو أكثر في أفرع المخابرات حتى تحصل على الموافقة الأمنية، وأنا تعرضت شخصياً للاعتقال بسبب نقدنا للواقع، ولذلك بعد اندلاع الثورة جمعنا أنفسنا كمجموعة من المسرحيين، وكنا نقدم عرضاً مسرحياً في كل عيد من أعياد الثورة في مناطق مختلفة، حتى أنشأنا التجمع في عام 2014، ليكون عملنا منظماً بشكل أكثر". ويضيف الخطاب: "وكما قلت، لأننا شعرنا أنها ثورة على كل شيء، وثورة يجب أن تغير حياتنا بالكامل، وعندما أنشأنا التجمع كان هناك العديد من الأفكار، ولمسنا أن هناك امتدادا للوضع السيئ من سياسة تكميم الأفواه من بعض الأطراف المحسوبة على الثورة ولا سيما بعض الفصائل العسكرية، بالإضافة لمعاناة الناس من بعض المنتفعين الذين لحقوا بركب الثورة، فتناولنا هذه القضايا من خلال المسرح، بالإضافة لـ "السكتشات" المرئية التي كنا نقدمها، وإيماناً منا بالمقولة التي تقول (أعطني خبزاً ومسرحاً.. أعطك شعباً مثقفاً)، كنا نسعى لتقديم أنبل الأفكار وتعزيز القيم، وقدمنا مسرحاً للأطفال والذي كان جديداً على أطفال الحرب في سراقب وكافة المدن والبلدات المحررة، لهدفين أساسيين، أولاً، لرسم البسمة على وجوههم، وثانياً، لزرع القيم الإنسانية في داخلهم من محبة ومساواة وإخاء".
وينوه أحمد إلى أنه "خلال أعوام الثورة التي عاشتها سراقب، تم اكتشاف العديد من المواهب ليس في مجال الفن والمسرح وحسب، وإنما في كثير من المجالات كالرسم والتصوير والموسيقى وغيرها، والتي لم تكن لترى النور لولا الثورة ودخول الإنترنت، والأهم أننا رفعنا سقف الحرية، ولو كان بنسبة محدودة". وأشار خطاب إلى أنهم أبقوا على ألبسة وأزياء المسرح في مكانها داخل التجمع، بالإضافة لمكتبة النصوص، ويعتقد أن جنود النظام الذين سيصلون إليها، سيقومون إما بإحراقها، أو سرقتها ومن ثم بيعها، لأنه من المؤكد بحسبه، أنهم لن يستخدموها لشيء يبني وطناً. ويضيف: "نحن حاولنا أن نبني جيلاً يتعرف للقيم الإنسانية من خلال هذه الألبسة والنصوص، ولكن هؤلاء يريدون تدمير هذا الجيل واستبداله بجيل من العبيد".