فيلمان أوروبيان في كارلوفي فاري... ارتباك الراهن وقلق اللحظة

17 يوليو 2017
من "آرّيتْميا" للروسي بوريس شْلَبْنيكوف (المركز الإعلامي للمهرجان)
+ الخط -
يُشكِّل الصدام بين طرفين أساسيين مشتركاً أوّل بين فيلمي "آرّيتْميا"، للروسي بوريس إيغورفيتش شْلَبْنيكوف (1972)، و"أخبار عاجلة" للرومانية إيوليا روجينا (1982). صدام ينبثق منه توتّر في العلاقة، وارتباك في الانفعال، وقلقٌ إزاء راهن اللحظة المُعاشة، وإزاء المقبل من الأيام (آرّيتْميا) أو الماضي (أخبار عاجلة). وإذْ يفتح الموت أبواب الماضي واللحظة معاً (أخبار عاجلة)، فإن الراهن اليوميّ، المتأتي من علاقة ناشئة بين حبيبين، يفتح جحيماً عليهما، وإنْ ينطفئ غليانه بين وقتٍ وآخر.

الفيلمان ـ المُشاركان في المسابقة الرسمية للدورة الـ 52 (30 يونيو/ حزيران ـ 8 يوليو/ تموز 2017) لـ "مهرجان كارلوفي فاري السينمائيّ" ـ يعكسان شيئاً من وقائع الحياة اليومية لأناسٍ يجتهدون من أجل حدٍّ أدنى من عيشٍ طبيعيّ، في اجتماعٍ معقودٍ على تحوّلات لن تكون كلّها سليمة وإيجابية. وفي مقابل سرد حكايتي ثنائيين في الفيلمين (حبيبان في "آرّيتْميا"، ومُراهقة وصديق والدها المتوفّى حديثاً في "أخبار عاجلة")، تنكشف أمورٌ وتفاصيل مرتبطة بالعمل والعلاقات والأنظمة المعتَمدة في مهنتي التمريض (آرّيتْميا) والإعلام المرئيّ (أخبار عاجلة)، وإنْ يميل الأول إلى تفاصيل المهنة أكثر من الثاني.

مشتركٌ ثانٍ يجمع أحدهما بالآخر، خارج كلّ نقاش نقدي: فوز الروسي ألكسندر ياتْسنْكو
(1977) بجائزة أفضل ممثل عن دوره في "آرّيتْميا"، ونيل الرومانية فويكا أولْتِيان (2000) تنويهاً من لجنة التحكيم "كأفضل وافد سينمائي"، عن دورها في "أخبار عاجلة". هذا انعكاسٌ لموقعهما الأدائي في السياقين الدراميين، وبين آخرين وأخريات يتوزّعون أدواراً تُكمِل الدورين هذين، أو تساعد على بلورة موقعهما داخل المنظومتين الدراميتين، أو تدعم حضورهما الإنساني (أولاً) في الفضاءين السينمائيين لتلك الحكايتين، المفتوحتين على مسائل وتساؤلات عديدة.

النواة الأصلية كامنةٌ في العلاقة الناشئة بين اثنين: في الفيلم الروسي، يرتبط أولغ (ياتْسنْكو) بكاتيا (الأوكرانية إيرينا غوربتشيفتا، 1988) بعلاقة حبّ تواجه تحدّيات جمّة، من دون أن ينتبه إليها بشكلٍ وافٍ. وفي الفيلم الروماني، تنشأ علاقة بين سيمونا (أولْتِيان) وألكس (الروماني آندي فاسلويانو، 1974)، بعد وقتٍ قليلٍ على وفاة والدها، المُصوِّر التلفزيوني، في حادثٍ يتعرّض له أثناء تأدية مهمّة إعلامية، رفقة المذيع ألكس. الارتباك والتوتر والصدام والرفض عوامل وسمات تتحكّم بتلك العلاقة الناشئة حديثاً، وتُشبه ـ إلى حدٍّ ما، وبتفاوت في درجات الغليان والغضب ـ العوامل والسمات المتحكّمة بالعلاقة القائمة بين أولغ وكاتيا. السعي الجدّي الذي يقوم به ألكس لتخفيف ثقل الفراغ والغضب والإقصاء، التي تعيشها سيمونا تجاه والدها الغائب عنها وعن والدتها منذ أعوام عديدة، يُشبه ـ إلى حدّ ما، وبتفاوت في درجات الحماسة والرغبة الجدّيتين ـ سعي أولغ إلى استعادة كاتيا، وتخفيف التوتر، والعمل على إعادة بناء العلاقة بينهما.

أولغ ممرِّض يعمل في سيارة إسعاف، ويحاول ـ مع فريق عمله الصغير ـ إنقاذ كلّ من يتعرّض لأزمة صحيّة في منزله. يُسرف في احتساء الخمر، لكنه يُصيب في تحليل العوارض وتشخيص الأمراض التي يكتشفها في أناسٍ يعيشون حالة متشابهة من الفقر والبساطة في يومياتهم العادية. يواجه أزمة في العمل، خصوصاً بعد قيام مديره بفرض قوانين جديدة يُفترض بها تحسين الأداء المهنيّ، لكنها تزيد من بؤسه. يصطدم بارتباك علاقته بكاتيا، التي ترغب في الانفصال عنه كلّياً، قبل أن تكشف له، في لحظة انفعالية جميلة وهادئة بينهما، إجهاضها جنيناً منه قبل عام.

ألكس يقع ضحية صدمة نفسية. أثناء تأديته تلك المهمّة الإعلامية (انهيار مبنى تابع لأحد المصانع، ومقتل عدد من العاملين فيه)، ينهار حائطٌ عليه، وعلى زميله المُصوّر الإعلاميّ، الذي يُقتل فوراً. متطلّبات المهنة لن تُعينه على الخروج من تلك الصدمة، بل لعلّها تزيد من ارتباكه واضطرابه، خصوصاً بعد تكليفه ـ فوراً ـ مهمّة تحقيق شريطٍ توثيقيّ عن زميله ـ صديقه الراحل. هذا يعني أنه مضطرّ إلى زيارة أهل الفقيد وعائلته، ما يضعه أمام سيمونا، المراهقة المضطربة التي لن تقبل مسعى ألكس، ولن تساعده إلاّ بعد جهدٍ، يحاول عبره إزالة التباسات كثيرة عالقة لديها إزاء والدها.

في مقابل "نجاح" معلِّق في "مهمّة" ألكس، التي تُذلِّل عقبات عدّة بين سيمونا ووالدها؛ يفشل أولغ في استعادة كاتيا، إذْ تُضرب العلاقة بينهما ـ المهتزّة أصلاً ـ ضربة أخيرة، ما يؤدّي بكلّ واحد منهما إلى مواجهة قدره لوحده. وفي مقابل الاغتسال الروحي، الذي يعيشه ألكس في رحلة تذليل العقبات الجمّة بين سيمونا ووالدها؛ تسقط المحاولات الكثيرة، التي يقوم بها أولغ لترتيب أحوال ذاته وعلاقته بكاتيا، في صدمة الإجهاض، ما يُبعده عنها، من دون أن يُدرك أحدٌ مصيره لاحقاً.

والفيلمان، إذْ يُعرّيان بعض العيش الاجتماعي في بلديهما، يجعلان من الصورة السينمائية انعكاساً للمعنى الأجمل للاشتغال الجمالي والفني (والإنساني أيضاً).



المساهمون