25 يناير ... من ثورة على رأسمالية المحاسيب إلى نخبة العسكر والكيانات السرية

25 يناير 2024
ثورة يناير وآمال ضائعة لتحسين حياة المصريين (Getty)
+ الخط -

بعد مرور 13 عاما على ثورة 25 يناير 2011، تسرع عجلة الزمن دورانها إلى الخلف، ليزداد الفقراء فقرا وتنهار الطبقة الوسطى، التي أشعلت نيران الثورة بحثا عن الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.

ووسط تردي الاقتصاد، عَلقَ المصريون بين تدهور خطير بالجنيه، مقابل ارتفاع العملات الأجنبية بنحو 10 أضعاف، ومعدلات تضخم غير مسبوقة تاريخيا، وزيادة هائلة بالديون الأجنبية والمحلية، تدفع النظام إلى بيع الأصول المملوكة للدولة.

تقفز السلطة من دائرة اقتصاد موجه، سيطرت عليه "رأسمالية المحاسيب" تضم رجال الأعمال والنخبة السياسية، لتنتقل إلى جماعة النخبة العسكرية والأمنية والكيانات السرية والأفراد المرتبطين بمجموعات المصالح لنظام ما بعد 30 يونيو 2013.

أصبحت الدولة عالقة في سلسلة أولويات متضاربة، تعكس حجم المشاكل التي فجرتها ثورة شعبية حاول الرئيس الراحل حسنى مبارك تحاشيها بسنواته الأخيرة بالحكم، بإجراء إصلاحات تنطوي على مخاطر سياسية تثير غضب المواطنين الذين يعتمدون على الدولة في توفير الغذاء والوقود المدعومين ووظائف عامة تمتص بعضا من الشباب الخريجين إلى قوة العمل.

قامت الثورة، في ظل ظروف اقتصادية أفضل مما تعيشه البلاد حاليا، طلبا لإصلاح حقيقي يستفيد منه كافة الشعب، لم يستطع خليفته المنتخب محمد مرسي أن يوفره خلال "العام المضطرب" الذي قضاه في الرئاسة، بينما سارع السيسي في أول مائة يوم قضاها بالسلطة، لزيادة الضرائب والرسوم وتصفيه الدعم على الوقود والسلع واستدعاء صندوق النقد لتنفيذ اتفاق عطله مبارك عام 2010. اعتمد على زيادة أسعار الطاقة والكهرباء وتطبيق ضريبة القيمة المضافة، تلبية للصندوق والمستثمرين الأجانب، الذين وعدوا بضخ مليارات الدولارات بسوق المال والأعمال، وفقا لتقرير وكالة "رويترز" في أكتوبر/تشرين الأول 2014.

تواجه مصر سلسلة من الأزمات المتشابكة، حيث تعاني شحا بالعملات الصعبة، وديونا ثقيلة، مع نقاط ضعف اقتصادية هيكلية، بينما تحتاج إلى تدبير معظم احتياجاتها من الغذاء والطاقة من الخارج، مع اعتماد النظام على نهج ضار يتوخى تحقيق نتائج قصيرة المدى، عبر مساعدات خارجية تدفعه إلى تلبيه طلباتها، مقابل بقائه السياسي.

يشير حمزة المؤدب، الباحث الاقتصادي بمركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط، إلى أن "مصر تشهد استقرارا وهميا" مع تعاظم انعدام الأمن المادي والاقتصادي، خلال العقد الماضي، وأزمات زادت اتساعا، بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، والاضطراب الجيو سياسي بالمنطقة.

انخفضت قيمة العملة من مستوى أقل من 6 جنيهات إلى 63 جنيها للدولار، بالسوق الموازية، ومن مستوى 5.8 جنيهات إلى 31 جنيها رسميا. ازدادت أسعار المواد الغذائية 3 أضعاف بين عامي 2016-2019، عقب إجراء أول تعويم للجنيه، خسر خلاله 50% من قيمته، وفقا لأول اتفاق مسبق مع صندوق النقد.

ألزم الصندوق النظام بتعويم ثان للجنيه عام 2022، ما أدى إلى خسارة الجنيه 50% من قيمته، ودفع بالأسعار إلى مستويات جديدة. بلغ التضخم نحو 80% بالسلع الأساسية بينما تجاوز 40% أغسطس/آب 2023، ليصل المتوسط العام للتضخم بنفس العام إلى 34%، مع توقع زيادته الشهر المقبل، مدفوعا بتراجع هائل للجنيه وزيادة أسعار الكهرباء والمياه والغاز والخدمات الحكومية، وانفلات أسعار جميع السلع الأساسية والاستهلاكية والمعمرة بالأسواق.

وفي خضم أزمة اقتصادية ضخمة، يبحث الأغنياء عن ملاذ آمن لاستثماراتهم بالخارج، بينما تتهافت الشريحة العليا من المجتمع على اكتناز الذهب والدولار واقتناء العقارات، وتلوذ أغلبية الفئة المتوسطة الحاملة لجينات ثورة 25 يناير من ذوي الدخل المحدود، بشهادات الادخار مرتفعة العائد بالجنيه، أملا في مساعدتهم على تحمل أعباء المعيشة.

تظهر سوءات الأزمة الاقتصادية يوما بعد يوم، حيث رصد تقرير صدر الثلاثاء الماضي، لدار الخدمات النقابية، إحدى المنظمات النقابية المهتمة بحرية العمل النقابي ومنظمات المجتمع المدني واستقلاليته، تراجعا مخيفا بقيمة الدخول الحقيقية للمواطنين وبخاصة الموظفين والعمال الذين يحصلون على أجور متدنية مقابل ساعات عمل طويلة وأعمال شاقة بالجهات الحكومية والعامة والقطاع الخاص.

يبين التقرير أن الحد الأدنى للأجور بلغ 1200 جنيه عام 2013، بارتفاع 300 جنيه عن فترة ما قبل 25 يناير 2011، بما يعادل 172 دولارا أميركيا في ظل سعر رسمي أقل من 7 جنيهات للدولار. ويؤكد أن رفع الحكومة للحد الأدنى للأجور نهاية 2023، ليصل إلى 4000 جنيه، هو زيادة غير حقيقية، بل "أوهام تفضحها نسب التضخم التي تآكلت معها الدخول، حيث يوازي الأجر الشهري العام الجاري 80 دولارا" بما يقل عن 50% من قيمته الحقيقة عام 2013.

ويبين كمال عباس، مدير دار الخدمات النقابية، لـ"العربي الجديد" وجود فجوة هائلة بالأجور بين العاملين بالقطاعات المختلفة بالدولة، مع تزايد تلك الفجوة، بين أكثر من 13 مليون مواطن من أصحاب المعاشات، الذين تتزايد معاشاتهم بحد أقصى 14% بينما يرتفع التضخم إلى ما فوق 35%.

يكشف عباس عن انضمام ملايين العمال وأبنائهم إلى الطبقة الفقيرة والمعدمة، في ظل توقف الحكومة والشركات العامة والخاصة عن تعيين موظفين، ما يدفع إلى زيادة معدلات البطالة عن مستوى 7.1% بين طالبي العمل رسميا، وتكريس التشغيل بنظام العمالة المؤقتة، بما يحرم العمال من حقوقهم في المطالبة برفع الأجور أو الحصول على معاش مستقبلا. وأشار إلى إلزام الحكومة للعامل بدفع مبلغ شهري للتأمين على نفسه، وفقا للقانون 48 لسنة 2019، وهو ما لا يستطيع الوفاء به في ظل تراجع الدخل وغياب فرص العمل المنتظم، وتزايد أعباء المعيشة.

يوضح حمزة المؤدب، الخبير الاقتصادي، أن صعود أسعار السلع ومعدلات التضخم وتراجع العملة ونقص المواد الغذائية أمور تؤجج التوترات السياسية وحالة انعدام الاستقرار السياسي، التي تشهد تقييد قدرة الدولة في مواجهة الأزمة مع ارتفاع مستويات الديون المتراكمة. ويؤكد أن القروض استخدمت في تمويل مشروعات بدون عائد أو موجهة نحو التصدير تابعة للجيش ومستثمرين أجانب، بما "قوض قدرة الدولة على إطعام شعبها، وباتت أكثر عرضة للصدمات الداخلية، مثل تدهور قيمة العملة أو الانهيار الاقتصادي، وأيضا للصدمات الخارجية مثل الحرب في أوكرانيا وتعطل سلاسل الإمداد، وتقبل الأسعار". وأضاف: "تكبدت الدولة ثمنا جيو-سياسيا بتقويض استقلاليتها على الصعيد السياسي".

 يبين المؤدب "تفضيل السيسي للمشاريع التي يهيمن عليها الرئيس والشركات المملوكة للمؤسسة العسكرية وكبار المستثمرين المصريين والأجانب، بتمكينهم من الحصول على الموارد بسهولة ويسر، في ظل إهمال احتياجات صغار المزارعين والعمال الزراعيين، بما يعزز عدم المساواة وزيادة نفوذ كبار مالكي الأراضي والتجار، ومواصلة تركز الثروة والسلطة في أيدي حفنة قليلة من الأشخاص".

يشير المؤدب في دراسة بحثية، إلى أن الأزمة الاقتصادية حدت من قدرة الحكومة على التوظيف ومواجهة زيادة معدلات البطالة والسيطرة على الأسعار، إلا أن "تردد النظام في إنهاء نظام دعم الطاقة والكهرباء على مدار السنوات الماضية لا يرجع إلى مخاوفه من حدوث اضطرابات اجتماعي، بل إلى المصالح الخاصة الكبيرة التي تستفيد منها المؤسسات العسكرية التي تمثل عبر قنواتها مجموعات ضغط نافذة تعارض الإصلاحات الجوهرية".

توضح الدراسة أن "أزمة الديون التي تمثل 88% من الناتج المحلي الإجمالي متجذرة في النسخة الجديدة من رأسمالية الدولة التي تقودها إدارة السيسي منذ عام 2013، حيث أصبح الاقتصاد السياسي المصري خاضعا لائتلاف حاكم أُعِيدَ تشكيله وبات متآلفا في الغالب مع مجموعة محدودة من مؤسسات الدولة القسرية، لترسي اقتصادا يصب في خدمة فئات محظية، وذلك من خلال تشكيل نظام مدني–عسكري".

وتذكر الدراسة أنه من أجل ضمان ولاء المؤسسة العسكرية السياسي، ركزت استراتيجية السيسي على تكليفها بإدارة مشروعات البنية الأساسية والعقارات والأراضي الجديدة، وإعطاء دور مركزي في قطاعات النقل والطرق والفنادق والضيافة والزراعة والصناعات الهندسية والكيماويات والمحاجر والذهب وتجارة الأراضي والعقارات وتدوير المخلفات والسلع الغذائية واللحوم والأسماك والدواجن والألبان والمستلزمات الطبية ومحطات الوقود، وفي الوقت نفسه "مزاحمة شركات القطاع الخاص تدريجيا في المشهد الاقتصادي".

تؤكد الدراسة أن أحد العوامل الأساسية التي ساهمت في أزمة الديون التي تعصف بمصر، والتي بلغت 6 تريليونات جنيه و165 مليار دولار، هو إنفاق المؤسسة العسكرية غير المُقَيد على مشاريع كبرى غير منتجة في القطاع العقاري، عبر شركات مملوكة للجيش، تمول بشكل أساسي من الديون المحلية والخارجية.

ومع اعتماد الدولة المفرط على الديون قصيرة الأجل لتمويل ميزانيتها، أصبح الاقتصاد عرضة للتأثر على نحو متزايد بالصدمات الخارجية، ما كبده فاتورة استيراد ضخمة، أدت إلى انخفاض الاحتياطي من العملة الأجنبية وهروب الأموال الساخنة والمستثمرين، وتخفيض مؤسسات التمويل الدولية للتصنيف الائتماني للدولة، في ظل تشككهم بقدرة مصر على سداد خدمة الدين المرتفعة، وتحمل مخاطر خفض سعر الجنيه من جديد.

يشير خبراء إلى أن مصر لا تزال تواجه المشاكل المالية نفسها المرة تلو الأخرى، منذ شرع النظام بتطبيق سياسات تشدد نقدي تعتمد على تخفيض الجنيه وزيادة معدلات الفائدة التي فاقت 20% بالبنك المركزي و27% بالبنوك التجارية.

ومع اللجوء إلى مزيد من القروض، توجه لمشروعات تديرها النخبة الحاكمة، بدون رقابة، لا تبدو الحكومة مستعدة لتغيير نماذجها الاقتصادية الراهنة، التي تميل إلى الحفاظ على الوضع القائم، من خلال اللجوء إلى العنف بوتيرة متزايدة، حيث تعتبر الحكومة أن الوضع القائم أفضل من حالة الضبابية واللايقين التي سترافق العملية الإصلاحية.

يؤكد الخبراء أن النخبة العسكرية والأمنية تفرض حالة الجمود، وتخوض حرب استنزاف وتمييع لإصلاحات اتفقت الحكومة عليها مع صندوق النقد، من خلال عرقلة التنازل عن أصول مملوكة للجيش معروضة للبيع ضمن "وثيقة ملكية الدولة"، وأخرى صدرت مؤخرا، تستهدف جمع 300 مليار دولار، خلال 6 سنوات، لتفادي التخلي عن مكاسبها الأساسية، رغم التدهور المستمر في الأوضاع الاقتصادية.

يؤكد حمزة المؤدب، أنه "في ظل غياب الضوابط على المؤسسة العسكرية قد تكون البلاد على موعد مع تحديات اقتصادية عاتية، من شأنها أن تشعل فتيل أزمة اجتماعية كارثية".

ويرجع خبراء انتشار مشاعر اليأس والخيبة السائدة بين المواطنين إلى تعاظم مظاهر عدم المساواة، وتراجع الحريات العامة ودور الأحزاب والمجتمع المدني، مع زيادة متوقعة في أعداد السكان الذين يرزحون تحت وطأة الفقر، بما يوقف مصر على مشارف مستقبل ضبابي قاتم، وسط مخاطر محدقة بالبلاد، نتيجة التراجع الاقتصادي، مع شح الإيرادات في العملة الصعبة، وعدم وجود رؤية ذات مصداقية كفيلة بتحقيق النمو، بالإضافة إلى الحاجة إلى إعادة هيكلة شاملة للاقتصاد، والحد من نفوذ جماعات المصالح القوية للنخبة العسكرية والأمنية والشركات والأفراد المرتبطين بها.   

وفي ظل نظام قائم على الولاء السياسي، يعزز قبضته الأمنية والعسكرية، يخشى الناس أن تنزلق البلاد نحو مصير دولة مفلسة على غرار لبنان أو فاشلة في سداد ديونها كالأرجنتين واليونان. ويحذر تيموثي كلداس، نائب مدير معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط بواشنطن، من أن تؤدي الأزمة الاقتصادية، التي تسبب فيها نظام يوطد حكمه عبر شبكات المحسوبية، منتهكا حقوق الانسان، إلى زعزعة الاستقرار، بينما يؤكد آخرون أن تلك السياسات تعمل على تأجيج مشاعر الغضب وتلاشي الأمل، لتلوح في الأفق موجات احتجاجية جديدة.

المساهمون