أخذت التظاهرات في العراق منحىً جديداً عبر قطع المحتجين الطرق الرئيسية المؤدية إلى عدد من حقول النفط والمنافذ البرية مع إيران، فضلاً عن ميناء أم قصر التجاري جنوب البلاد، في ورقة تصعيد جديدة بوجه الحكومة، فيها شهدت العاصمة بغداد وباقي المحافظات قطع عدد من الشوارع المهمة والرئيسية، لمنع وصول الموظفين إلى دوائرهم.
ودخلت الاحتجاجات الشعبية في العراق، يومها العاشر، منذ استئنافها في الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بعد توقف دام لأسبوعين، وشملت مدن بغداد والبصرة وميسان وواسط وبابل والمثنى والقادسية وذي قار وكربلاء والنجف بمشاركة عشرات الآلاف من العراقيين.
وعلى الرغم من تقديم الحكومة ثلاث حزم إصلاحية ووعوداً وقرارات مختلفة بلغت في مجملها 71 قراراً مختلفاً، فضلاً عن 12 قراراً أصدره البرلمان، و5 قرارات لمجلس القضاء الأعلى، و3 قرارات لرئاسة الجمهورية، تضمنت وظائف ومنحاً مالية وتوزيع قطع أراضٍ سكنية ومحاسبة متورطين بالفساد، وإلغاء امتيازات كبار المسؤولين وتخفيض مرتباتهم، بالإضافة إلى وعود بتعديل الدستور، إلا أن هذه الوعود لم تنجح في تخفيف غضب الشارع من استشراء الفساد وتردي الظروف المعيشية في البلد الغني بالنفط.
وأقدم متظاهرون في محافظة البصرة على قطع طرق رئيسية مؤدية إلى مواني أم قصر (تجاري)، وخور الزبير (صناعي) وأبو فلوس (مخصص لاستقبال البضائع العامة)، ومعمل الأسمدة ومرفأ الغاز السائل ومحطة الكهرباء الغازية.
وفي محافظة ميسان (شرق العراق) قطع المتظاهرون طرقاً مؤدية إلى الحقول النفطية، وإلى المنفذ الحدودي البري بين العراق وإيران.
وقال وزير التجارة العراقي، محمد هاشم العاني، في وقت سابق، إن استمرار الاحتجاجات أدى إلى تأخير تفريغ العديد من شحنات الأرزّ والأغذية في ميناء أم قصر، فيما حذرت اللجنة المالية في البرلمان من خطورة قطع طرق الحقول النفطية والموانئ، مؤكدة أن ذلك سيكبد العراق خسائر بملايين الدولارات يومياً.
لكن سلام سميسم، الخبيرة الاقتصادية العراقية، قالت لـ"العربي الجديد"، إن "المتظاهرين توجهوا إلى أقوى الأسلحة الاقتصادية كأقوى الخطوات، ولهذا سيحاول الجميع تنفيذ مطالب المحتجين".
وأضافت سميسم أن "الشباب المنتفض لا تفرق معه إذا لم يصدّر العراق مليوني برميل نفط أو أكثر، فهم يرون أن أموال النفط لا ترجع إليهم، ولا يشعر مواطن عراقي بأن النفط الذي يصدر تابع له وله حق فيه".
وتابعت: "الأرصفة الموجودة في ميناء الفاو وأم قصر، تسيطر عليها أحزاب وكتل سياسية، ومقسمة وفق المحاصصة، ولهذا لا يجب لوم الشباب على إغلاق الموانئ، فهم يعرفون الأرصفة لمن هي تابعة".
وقالت: "صحيح أن إغلاق الموانئ وحقول النفط سيكون له تأثير كبير في العراق من الناحية الاقتصادية، لكن هذا صراع بين ثورة شعب غاضب وسلطة فاسدة".
وأضافت أن "إغلاق الطرق سيؤدي إلى تعثر العمل في بعض حقول النفط، وسيكون له تأثير سريع بمستوى الإنتاج في حال استمراره، بالإضافة إلى أنه سيوقف الاستيراد والتصدير من طريق الموانئ"، مشيرة إلى أن الطرق المقطوعة والتظاهر قرب حقول النفط يُعدّان رسالة من المتظاهرين إلى السلطات العراقية.
وحذر حُنين قدو، عضو اللجنة المالية في البرلمان، من أن "غلق الموانئ وحقول النفط، سيكون له تأثير اقتصادي سلبي كبير جداً في العراق والعراقيين، وسيساعد في زيادة الفقر".
وقال قدو لـ"العربي الجديد" إن "الأمور الآن تتجه نحو الفوضى، ولا توجد أي معالجات حقيقية من قبل الحكومة العراقية، ونحن بالحقيقة الآن في طريق مسدود"، مضيفاً أن "غلق الموانئ وحقول النفط في الجنوب، سيكون لها تبعات مالية واقتصادية صعبة جداً، وهذا العمل ليس من مصلحة العراق والشعب العراقي، وستكون له نتائج كارثية على وضع العراق الاقتصادي".
وتابع عضو اللجنة المالية البرلمانية أن "إغلاق الشوارع أيضاً سيكون له تأثير في قوت المواطنين وقضية التجارة وموضوع المواد الغذائية، فالأسعار سترتفع، وهذا سيؤثر بحياة المواطنين اليومية".
وقال وزير النقل السابق كاظم فنجان الحمامي، في بيان، أمس الأحد، نشرته وسائل إعلام عراقية محلية، إن تجمعاً لأصحاب المزارع المنتشرة في الرقعة الجغرافية لمنطقة خور الزبير بالبصرة، باشر بمحاصرة أرصفة ميناء الغاز السائل، وربما منعوا موظفي الميناء من القيام بواجباتهم على غرار ما حدث في ميناء أم قصر.
وأضاف أن أسعار الغاز المنزلي ستشهد ارتفاعاً متصاعداً، بالإضافة إلى انخفاض إمدادات الغاز المخصص لتشغيل محطات توليد الطاقة الكهربائية بنسبة كبيرة تصل إلى 80 بالمائة، ما يؤدي إلى تردي الخدمات الكهربائية والعودة إلى ساعات القطع المبرمج.
وتزامن تحرك المتظاهرين لقطع طرق رئيسية مؤدية إلى حقول النفط وموانئ حيوية، مع إطلاق ناشطين حملة واسعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تحمل اسم "خليخا تخيس" لمقاطعة البضائع الإيرانية، احتجاجاً على التدخل الإيراني، بعد تصريحات للمرشد الأعلى لإيران علي خامنئي، وصف فيها التظاهرات بالشغب.
ويصل حجم التبادل التجاري بين العراق وإيران إلى 12 مليار دولار سنوياً وفقاً لإحصاءات وزارة التجارة العراقية لعام 2018، وكان وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف قد أعلن خلال زيارته للعراق في يناير/ كانون الثاني 2019 نية بلاده رفع حجم التبادل التجاري مع العراق إلى 20 مليار دولار سنوياً بحلول عام 2020.
ويستورد العراق من إيران منتجات الألبان والفواكه والمعلبات الغذائية ومواد البناء كالإسمنت والطابوق وحديد التسليح والأسمدة والمبيدات الزراعية والأقمشة والسيارات والدواجن والأجهزة الكهربائية، فضلاً عن البتروكيماويات والغاز السائل ومنتجات أخرى.
واعتبر خبراء أن مقاطعة البضائع الإيرانية في عموم العراق، سيشكل ضربة للاقتصاد الإيراني المنهك أساساً بسبب العقوبات الأميركية، خاصة أن السوق العراقي يعد أكبر سوق مستهلك للبضائع الإيرانية في المنطقة.
وقال مؤمن الزبيدي، الخبير الاقتصادي، لـ"العربي الجديد" إن مقاطعة البضائع الإيرانية ستعود بخسائر كبيرة على الاقتصاد الإيراني في حال تطبيقها، حيث إن واردات إيران المالية من تصدير سلعها للعراق ستكون مهددة بالتراجع، بينما كانت طهران تطمح في زيادتها إلى 20 مليار دولار سنوياً كتبادل تجاري لسلع ومنتجات كثيرة.
وتستحوذ طهران على الحصة الكبرى من السوق العراقية، أمام منافسيها الآخرين مثل الصين وتركيا ودول أخرى في وقت تبلغ فيه تجارة العراق الخارجية نحو 40 مليار دولار سنوياً بحسب الخبير الاقتصادي عبد الغفار الداوودي.
وقال الداوودي إن "إيران تسيطر على السوق العراقي تماماً عبر أذرعها وميليشياتها والأحزاب الحاكمة الموالية لها في بغداد، وقد ساهم السوق العراقي في نمو الاقتصاد الإيراني خلال العام الماضي، لأن البضائع الإيرانية لا تجد لها مستهلكين في الدول الأخرى غير العراق لرداءتها".
وأضاف أن "اقتصاد إيران وتجارتها الخارجية في هذا الوقت تحديداً بعد العقوبات الأميركية يعتمدان تماماً على السوق العراقية، وأي مقاطعة شاملة في الداخل العراقي ستوجه ضربة قاضية لن تستطيع إيران الإفاقة منها لسنوات، وسيزداد الاحتقان الشعبي داخل إيران حتماً، وقد تتعرض لانهيار اقتصادي غير مسبوق".
وحثّ الناشطون بقوة على مقاطعة البضائع الإيرانية، معتبرين أنها إجراء شعبي مهم لمعاقبة إيران على تدخلاتها المستمرة ودعم الأحزاب الفاسدة في بغداد على حد وصفهم. وكتب الناشط قيصر العبيدي: "قاطعوا البضائع الإيرانية، فكل مبلغ تدفعه لشراء بضاعة إيرانية يشترون به سلاحاً ليقتلوك".
واعتبر الغيث العراقي أن "حملة المقاطعة جاءت بعد اعتبار خامنئي (المرشد الأعلى لإيران) تظاهرات العراق شغباً وفوضى.
وقال الكاتب محسن الرملي على صفحته الرسمية: "الشباب الحر الواعي يطلبون منا القيام بحملة توعية شاملة وطويلة النفس لمقاطعة البضائع الإيرانية، فما تفعله إيران وذيولها بشبابنا الأحرار واستعدادها لحرق بلدنا كله هو كي يبقى سوقاً لتصريف بضائعها، وهي التي حرقت المحاصيل الزراعية وجففت الأنهار وتمنع مشاريع الكهرباء والبناء وغيرها".
ومنذ تجدد العقوبات الأميركية على إيران، العام الماضي، في أعقاب انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي في مايو/أيار 2018، تكثّف إيران تعاونها مع العديد من دول الجوار، على رأسها العراق، في محاولة للالتفاف على العقوبات.
ويمثل العراق الشريك التجاري الثاني لإيران بعد الصين. وقال مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون الاقتصادية، غلام رضا أنصاري، إن نصف تجارة بلاده يجري مع دول الجوار، مضيفاً خلال ندوة تقییم الطاقات الكامنة لتنمية العلاقات الاقتصادية مع الخارج، يوم الجمعة الماضي، وفق وكالة الجمهورية الإسلامية للأنباء: "نحاول استخدام العملة الوطنية في التجارة مع جيراننا، الأمر الذي يقلّل من الحاجة إلى التحويلات المصرفية".
وتابع أنصاري قائلاً إن الأولوية التالية للتجارة يجب أن تكون للدول التي يسهل الوصول إليها، في ما يتعلق بتحويل الأموال والنقل والشحن، وإن اكتشاف أسواق جديدة ومناطق يمكن الوصول إليها يجب أن يكون من أولويات غرفة التجارة.
وأعلنت وزارة الكهرباء العراقية، يوم الجمعة الماضي، إتمام عملية الربط التزامني بين المنظومتين العراقية والإيرانية، موضحة أنه "تم إنجاز عملية الربط، لتكون المرحلة الأولى لجعل العراق مركزاً إقليمياً ومحوراً عالمياً لسوق الطاقة في المنطقة".
وكان المحتجون قد طالبوا في بداية التظاهرات بتحسين الخدمات العامة، وتوفير فرص عمل، ومكافحة الفساد، قبل أن يرفعوا سقف مطالبهم إلى إسقاط الحكومة، إثر استخدام الجيش وقوات الأمن العنف المفرط بحقهم، وهو ما أقرت به الحكومة، ووعدت بمحاسبة المسؤولين عنه.
ومنذ بدء الاحتجاجات، تبنت حكومة عادل عبد المهدي عدة حزم إصلاحات في قطاعات متعددة، لكنها لم تُرضِ المحتجين الذين يصرون على إسقاط الحكومة ضمن مطالب أخرى عديدة.