لماذا رفع المركزي المصري الفائدة؟

28 ديسمبر 2022
المتسبب الأكبر في ارتفاع معدل التضخم في مصر هو ارتفاع سعر الدولار (Getty)
+ الخط -

لم يعقد البنك المركزي المصري اجتماعاً طارئاً بعد قرار بنك الاحتياط الفيدرالي رفع الفائدة الأميركية نصفا بالمائة، وانتظر ثمانية أيام بعدها، قبل أن يفاجِئ الأسواق ويعلن رفع الفائدة على الجنيه المصري ثلاثة بالمائة، الأمر الذي اعتبره البعض تمهيداً لمزيد من التخفيض في قيمة العملة المصرية، كما التزمنا أمام صندوق النقد، لنتمكن من الحصول على قرض الثلاثة مليارات دولار.

وفي البيان الذي تلى الإعلان عن قرار رفع الفائدة، قال البنك المركزي إن "لجنة السياسة النقدية تشير إلى تزايد الضغوط التضخمية من جانب الطلب، وهو ما انعكس في تطور النشاط الاقتصادي الحقيقي مقارنة بالطاقة الإنتاجية القصوى، وفي ارتفاع أسعار العديد من بنود الرقم الأساسي لأسعار المستهلكين، وفي زيادة معدلات نمو السيولة المحلية".

تحدث بيان السياسة النقدية عن الضغوط التضخمية التي تتعرض لها البلاد، حيث أظهرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ارتفاع التضخم الأساسي في مصر الشهر الماضي إلى أكثر من 21%، وأشار إلى تسبب نمو السيولة المحلية في ارتفاع الأسعار، وكأنه يقول إن رفع الفائدة جاء، كما أشار في مرات الرفع السابقة هذا العام، لسحب السيولة من الأسواق، ومن ثم دفع التضخم للانخفاض من أعلى مستوى له في أكثر من خمس سنوات. وبالرفع الأخير، بلغ إجمالي رفع الفائدة هذا العام 800 نقطة أساس، أي 8%.

يدرك البنك المركزي، بمن فيه من قامات اقتصادية وخبرات مصرفية على أعلى مستوى، أن التضخم الحادث في مصر لم يتأثر، في الجانب الأكبر منه، بحجم السيولة المتاحة في الأسواق. ولهذا السبب، استمر البنك، وفقاً لمصادر حكومية، في طباعة المزيد من البنكنوت حتى شهر أغسطس/آب الماضي، رغم ارتفاع معدل التضخم، بداية من شهر مارس/آذار الماضي. فلو كان البنك يرى زيادة السيولة سبباً رئيسياً لارتفاع معدل التضخم، لما استمر في الطباعة!

ويدرك البنك المركزي المصري أيضاً، أنّ المتسبب الأكبر في ارتفاع معدل التضخم في البلاد هو ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه، كون ما يقرب من ثلثي ما يأكله ويشربه ويرتديه ويركبه المصريون مستورداً. فلما ارتفع الدولار مقابل العملة المصرية (أكثر من 57% خلال الأشهر التسعة الأخيرة)، ارتفعت الأسعار على المشتري بالجنيه المصري، وإن لم ترتفع بالدولار إلّا قليلاً.

يدرك المركزي المصري كلّ ذلك بالتأكيد، إذ تنشره المواقع الأجنبية التي تتكلم عن الاقتصاد المصري، ويتناقله المهتمون بالاقتصاد في مصر، ويكتبه اقتصاديون متخصصون طوال الوقت على وسائل التواصل الاجتماعي. وعلى الرغم من ذلك، رفع البنك الفائدة على الجنيه المصري هذا العام 8%، وأثقل بها الموازنة العامة، المنهكة أصلاً، وزاد من أعباء الدين المحلي، وجار على حق المواطن المصري في إنفاق الدولة على التعليم والصحة والتأمينات الاجتماعية والبحث العلمي، وفقاً لنصوص الدستور.

كل هذا يؤكد أنّ هناك هدفاً "أسمى" دفع البنك المركزي لرفع الفائدة، رغم التبعات السلبية المصاحبة للقرار. وحقيقة لا أرى سبباً يدفع البنك المركزي لرفع الفائدة في هذا التوقيت، مع وجود نية أعلنتها الحكومة المصرية لتخفيض سعر الجنيه قريباً، وربما تعويمه، إلّا أنّ يكون صانعو السياسة النقدية في مصر راغبين مرة أخرى في دعوة الأموال الساخنة للاستثمار في أدوات الدين المصري، في إطار سعيهم لجذب سيولة بالعملة الأجنبية، تساهم في الوفاء بالالتزامات التي يتعين على البلاد سدادها، وتوفر بعض الدعم عند اتخاذ قرار التعويم المنتظر.

ورغم أنّ مأساة هروب الأموال الساخنة من مصر، وما تلاها من تبعات سلبية على الحساب الجاري المصري، خلال الربع الأخير من العام الماضي، والربع الأول من العام الحالي، أطاحت بمحافظ البنك المركزي السابق رغم ولائه، وجعلت وزير المالية يبكي ندماً على اعتماده عليها "ثلاث مرات" على حد تعبيره، أصبحت الأموال الساخنة مرة أخرى، بعد كلّ ما شهده الجنيه من تراجع، وما اضطررنا لاقتراضه بالعملة الأجنبية، وما دُفعنا لوضعه في صندوق يسهل بيعه أو بعض أصوله، هي الملاذ الأخير، حتى لا تضطر البلاد لإعلان الإفلاس.

نستعد إذاً لجولة جديدة من تدفق الأموال الساخنة، يبيع فيها المستثمرون الأجانب دولاراتهم إلى البنوك المصرية، بسعر سيكون على الأرجح بين 25 – 27 جنيهاً لكل دولار، فيحصلون على فائدة تدور حول عشرين بالمائة في أذون الخزانة المصرية، معفاة من الضرائب، على عكس المطبق على المصريين من مشتري تلك الأذون، وذلك كيل يسير.

تشير التغيرات الحادثة في معنويات بعض المصريين خلال الفترة الأخيرة، كما تراجع سعر الدولار في السوق الموازية في مصر، إلى أن الخطة قد تنجح، وأنّ التعويم يمكن أن يحدث، دون خسائر ضخمة، وخاصة بعد الإعلان عن توفير الدولارات اللازمة لإخراج بضائع محتجزة في الموانئ تجاوزت قيمتها 5 مليارات دولار.

موقف
التحديثات الحية

ويزداد التفاؤل (المتحفظ) مع القرارات التي اتخذها البنك المركزي، متأخراً بعض الشيء، لكن أفضل كثيراً من عدم اتخاذها، والتي تحد من بيع الدولار للمسافرين، وتقلل حدود السحب من الخارج، وتقيد استيراد العديد من السلع، وفي مقدمتها السيارات، ولكن...

ولكن تبقى المشكلة الأساسية في اعتماد هذه الخطة الطموح على الأموال الساخنة مرة أخرى، وهو ما يعني أننا سنكون معرضين لصدمة جديدة حال خروج هذه الأموال، سواء كان ذلك بفعل غزو صيني لتايوان، على غرار الغزو الروسي لأوكرانيا، أو وباء يظهر من جديد في الهند، ويتسبب في تعطل سلاسل الإمداد وإغلاق عالمي كبير لا تستجيب له مصر، كما حدث وقت ظهور وباء كوفيد-19.

وعلى عكس السيناريو المتفائل، يزداد التشاؤم هنا مع الطبيعة المصرية المعروفة، التي قد تتصور، مع قدوم الأموال الساخنة، أن المشكلة قد انتهت، فتبدأ من جديد في فتح الاستيراد وإكمال المشروعات القومية الضخمة المتعطلة، لنعيد تكرار نفس السيناريو السابق، إلا أننا سنبدأ هذه المرة من نقطة أقرب كثيراً، مقارنة بالمرات السابقة، من الهاوية.

المساهمون