قبل الحوار: نعالج الغلاء أم عدم الاستقرار؟

06 مايو 2022
مخاوف من تدهور الجنيه المصري وغلاء السلع بعد رفع الفائدة الأميركية (getty)
+ الخط -

رفع البنك الفيدرالي الأميركي الفائدة نصفاً في المائة على الدولار، فارتبكت الأسواق المالية والشركات في مصر. يخشى الجميع تدهورا جديدا في قيمة الجنيه، وموجة أخرى من الغلاء تزيد من العسر المالي، الذي ارتفع مع الحرب الروسية على أوكرانيا. مع انطلاق الحرب، تعرض الاقتصاد لهزات زلزالية، تظهر آثارها في موجات تضخم، وهروب رؤوس الأموال الأجنبية، مع عدم قدرة البنوك على توفير العملة الصعبة لشراء الواردات من السلع الغذائية واحتياجات المصانع. شكلت الحرب قيدا شديدا على القرار السياسي في مصر، فلم تستطع الدولة أن تأخذ اتجاها مناهضا لها، أو داعما لأحد أطرافها، وسارت بينها على حبل مشدود، لأن مصالحها الاستراتيجية بأيدي الطرفين المتصارعين.

مصر في ورطة، اقتصادها يتدهور، تبحث عن الاستقرار وتخشى أية اضطرابات اجتماعية قد تحدث، في ظل عجز مالي دائم، ويتسع، وتجمع 3 كوارث كبرى في آن واحد، بدأت بمشكلة سد النهضة، واستمرار تداعيات وباء كورونا، والحرب في أوكرانيا.

دفعت الأزمة الشديدة النظام إلى البحث عن حوار سياسي يجد فيه مخرجا. يفتش بين بقايا أحزاب، ومؤسسات سياسية شكلها على يديه. فلم تظهر من بينهم آراء نيرة تدله على ما يجب فعله، في ظل مخاوف من أن يطردهم النظام من رحمته، أو الوقوع في خطأ يكلفهم الإبعاد عن المشهد أو الزج بهم في السجون. فلا يمكنك في ظل نظام، حصل على فرص هائلة للاقتراض والاستقرار الأمني، لا يقول الحقيقة ولا يسمح لك برؤية الحقيقة، أن تتجنب الضرر إذا أقدمت على مد يد العون له، بكلمة صادقة أو رأي مخالف للقطيع. رغم ذلك، لا يمكنك السكوت على ما نراه، لأن الوباء، عندما أتى على أصحاب الرأي في السجون، لم يفرق بين ضابط وسجين، والإفلاس عندما حل في لبنان بين المتصارعين على الحكم قذف بهم في قلب الطوفان.

يقول رانجيت سينغ، مساعد مدير إدارة النقد الدولي لأسواق رأس المال، بعد اجتماع الأسبوع الماضي استهدف تقديم قروض جديدة لإنقاذ البلاد، إن "مصر مكشوفة من قبل الحرب الروسية الأوكرانية، فلديها نهم شديد للتمويل الخارجي في ظل ارتفاع التضخم ومحدودية الموارد المالية. كلمة المسؤول الدولي تبين أن ظاهرة التضخم التي يشعر بها المصريون مع موجات الغلاء المتكررة، والمتقاربة، ستظل قائمة، ما يعني أن أية قروض جديدة لن تكون هي الحل الحاسم في إنهاء أزمات العباد. دفعت الأزمة كثيرا من الشخصيات العالمية والمؤسسات المالية الدولية إلى الإدلاء بدلوها في علاج المشكلة المصرية، باعتبارها أصبحت مصدر تهديد للاستقرار في المنطقة والأمن الدولي.

يتفق صندوق النقد الدولي، سيئ السمعة شعبيا، ومنظمة التجارة والتنمية "أونكتاد"، على أن مصر تحتاج إلى حل سياسي عاجل يواجه تلك الأزمات، لأنها تمر بفترة عصيبة، وسيتجرع الجميع الدواء المر. واهتمت مؤسسة "بلومبيرغ" الاقتصادية بنشر تقرير عميق، أول مايو/أيار الجاري، لتفسير ظاهرة الغلاء المتواصل، تحت عنوان "التضخم أولاً أم عدم الاستقرار السياسي". يبين التقرير، الذي كتبه الخبير الاقتصادي Stephen Mihm، أن صناع السياسة يبدأون في القلق عندما يبدأ المواطنون في التعبير عن غضبهم عند الشراء من محلات البقالة مع ارتفاع الأسعار. يعلم السياسيون أن مشاعر الغضب ستصب في النهاية لغير صالحهم، حيث سيلقي المواطن باللوم عليهم، ويبدأ التفكير بإزاحتهم إلى خارج مناصبهم. يؤكد ستيفن في تقريره أن موجات الغلاء مرتبطة بعدم الاستقرار السياسي، مبينا أن السجل التاريخي للعديد من حالات التضخم سار جنبا إلى جنب مع عمليات الاصطفاف الرئيسية والانقلابات وحتى الثورات الدموية. وقال: "يستحق هذا التاريخ أن يؤخذ في الاعتبار، حيث تكافح البلدان في جميع أنحاء العالم حاليا مع ارتفاع الأسعار".

يشير ستيفن إلى أنه قد يبدو أن التضخم يغذي عدم الاستقرار السياسي، أو العكس، وكأننا نبحث عن العلاقة السببية أيهما تأتي أولا: البيضة أم الدجاجة، ولكن إذا نظرنا إلى التاريخ، ففي حالة انهيار الإمبراطورية الرومانية، وفقا للدراسة التي قام بها المؤرخ الاقتصادي بيتر تيمين عن اقتصاد روما القديمة، يتوضح أن الضغوط التضخمية، التي استهلكت الإمبراطورية، أدت إلى سقوطها. فقد أشار تيمين إلى أن الفوضى السياسية يمكن أن تخلق الحاجة إلى دفع رواتب الجنود، ما يؤدي إلى طباعة النقود والتضخم في نهاية المطاف، وبالتناوب، قد يؤدي التضخم إلى السخط، ما يؤدي بالجنود إلى الثورة ضد أسيادهم، والعكس جائز، فلا ندري أيهما يأتي أولا". خلص تيمين إلى أن متغيرا خارجيا ربما يكون قد أطلق ديناميكية مدعومة بعدم الاستقرار والتضخم من شأنها أن تطيح روما، وكان "الطاعون الأنطوني"، الذي انتشر في الإمبراطورية الرومانية من عام 165م إلى 180م، هو الذي عجل بهذا السقوط. ويشير التقرير إلى ما آلت إليه الدولة العثمانية والإمبراطورية الصينية من تدهور سياسي صاحبته زيادة في رواتب العاملين بالدولة والجيش والشرطة، وكأنه يشير إلى ما تفعله حكومتنا منذ سنوات.

يشير ستيفن إلى إحدى الدراسات النموذجية التي أجريت على 160 دولة بين عامي 1960 و1999، حول عدم الاستقرار السياسي المحدد من خلال معدل دوران المناصب الوزارية، ويبين أن ذلك ساهم في تقلبات التضخم، لا سيما في البنوك المركزية ذات الاستقلال المحدود من قبل النظام السياسي. وعلى العكس من ذلك، تميل البلدان ذات المؤسسات القوية، التي تعتمد استقلالية بنوكها المركزية، إلى إبقاء التضخم تحت السيطرة، ومواجهة الحالات التي يظهر فيها بطرق غير متوقعة. تشير النتائج إلى أن السياسيين والأحزاب السياسية يدفعون ثمنا باهظا عندما يفاجئ التضخم الناس. ويتم احتواء الاحتجاج بأمان في دول المؤسسات بإرسال شاغلي الوظائف إلى التقاعد المبكر، ونجاة القادة بحياتهم، مع ذلك، فإن التضخم المفرط يؤدي إلى انهيار النظام الاجتماعي والسياسي القائم، حيث تكون الأرض خصبة للكوارث التي تحدث بعد ذلك. يخلص التقرير إلى أن وجود مؤسسات الدولة في الديمقراطيات عالية الأداء ينجيها من العواصف التضخمية، بشكل أفضل بكثير من البلدان الأكثر فقرا والاستبدادية.

ارتفاع الأسعار يثير الناس في أنحاء العالم، ولكن ستظل في مصر قرينة بتصرفات هوجاء وثورات شعبية، بعد أن يفقد الناس الأمل في قدرتهم على العيش في ظل دولة مؤسسات ديمقراطية، حيث تصبح الثورات هي الحل، من دون أن تعي الجماهير أن الخلاص لا يأتي بحل سحري على يد الثائرين بمفردهم.

المساهمون