كشفت وزارة التموين المصرية عن خطتها لرفع الدعم تدريجاً عن منظومة الخبز بحلول العام المالي 2022-2023، عن طريق تحويل الدعم العيني، الذي يحصل بموجبه المواطن على 5 أرغفة خبز يومياً بقيمة 5 قروش للرغيف على بطاقات التموين، إلى دعم نقدي مشروط للمستحقين فقط.
وكشف وزير التموين علي المصيلحي، في تصريحات يوم 1 يناير/كانون الثاني، أن هناك مسارين للتحول، "الأول هو التحول إلى الدعم النقدي المشروط مع تحرير أسعار القمح والدقيق، والثاني رفع سعر رغيف الخبز تدريجاً مع تحديد الفئات الأكثر احتياجاً".
وكشف عن موعد تطبيق القرار بقوله إن "الأمور سوف تتضح بصورة أفضل في شهر مارس/آذار المقبل، بالتزامن مع وضع الميزانية الجديدة للدولة للعام 2022-2023".
وبرر الوزير تحويل الدعم العيني للخبز إلى النقدي المشروط برفع كفاءة الدعم وترشيده والوصول إلى مستحقيه، لأن المواطن لا يقدر حجم دعم رغيف العيش الذي تقدمه الحكومة له، حيث وصلت تكلفته الفعلية إلى 65 قرشاً بإجمالي 50 مليار جنيه، ويستفيد منه 70 مليون مواطن.
ولا يرى المواطن من دعم الخبز إلا القروش الخمسة التي يدفعها في ثمن الرغيف، فيزيد استهلاك الخبز نتيجة لانخفاض السعر، ثم يسيء الاستخدام فيأكل وجه الرغيف ويترك قاعدته.
فهل الحكومة جادة في توصيل الدعم إلى مستحقيه؟ّ!، أم أن كفاءة الدعم وترشيده وتوصيله إلى مستحقيه هي شعارات براقة فقط، اعتاد التغني بها وزير التموين منذ عهد المخلوع مبارك.
الواقع أن دعم رغيف الغلابة تم تخفيضه بطريقة ملتوية، حيث تم تخفيض الوزن من 130 غراماً إلى 90 غراماً، بنسبة 30%. وكذلك خفض الدعم على الرغيف بتحديد عدد الأرغفة بخمسة فقط لكل مواطن.
وحذف الملايين من المستحقين عشوائيا، ثم تراجع السيسي تحت ضغط المتظاهرين. وعندما ألغى النظام الدعم على الوقود والكهرباء والغاز والمياه والمواصلات، وتخفيضه على البوتاغاز، كان يرفع نفس الشعارات، ولكن النظام حرم الجميع من الدعم، ولم يعوض المستحقين.
يقصد بالدعم النقدي المقترح أن تحول الدولة مبلغاً نقدياً محدداً مباشرة إلى حساب رب الأسرة في بطاقة التموين، بقيمة عدد الأرغفة التي ستحددها الحكومة وبحد أقصى لـ4 أفراد من الأسرة، ويستطيع من خلاله الحصول على حصته من الخبز المخصصة له يومياً، كما يحدث في صرف مقررات السلع التموينية، حيث يحصل المواطن على كمية من السلع بقيمة 50 جنيهاً تحول له في بطاقة التموين.
حقق الدعم النقدي كفاءة ونجاحاً في تحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع الدخل في معظم الدول المنتجة والمتقدمة اقتصاديا منذ منتصف القرن الماضي.
وقبل ثلاثة عقود، طورت دول في أميركا اللاتينية، مثل البرازيل والمكسيك، نظام الدعم النقدي إلى الدعم النقدي "المشروط".
ويقصد بالمشروط أن الدولة تدعم الأسر الفقيرة بمبلغ نقدي، وفي المقابل، يلتزم المواطن بتنفيذ عدد من الشروط، أهمها انتظام الأطفال في مراحل التعليم المختلفة، وتطعيم المواليد. ثم تلت دول أميركا اللاتينية دول كثيرة في تطبيق الدعم النقدي المشروط في أفريقيا وآسيا وأوروبا.
ونجح النظام المطور في علاج فقر الأسرة من خلال التحويلات المالية المباشرة، ونجح كذلك في علاج فقر الأجيال الجديدة، بالاستثمار في تنمية رأس المال البشري بالتعليم وتخريج شباب قادرين على الكسب.
مزايا الدعم العيني
يظن البعض أن الدعم العيني كله عيوب، وأن النقدي كله مميزات. والحقيقة أن كل نظام له مميزات وله عيوب. وقد ينجح الدعم النقدي في دولة ويفشل في أخرى، بحسب الوضع الاقتصادي للدولة والشفافية والرقابة.
في الدول الفقيرة التي تستهلك أكثر مما تنتج وتعاني من مستويات التضخم العالية، مثل مصر، يصبح الدعم العيني أفضل من الدعم النقدي، لأن مستويات التضخم المرتفعة سوف تمتص جزءًا كبيرًا من الدعم النقدي وتزيد معاناة الفقراء.
في سنة 2005، أجرى مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري دراسة بعنوان: "الأبعاد الاقتصادية والتوزيعية للتحول من الدعم العيني إلى الدعم النقدي للخبز البلدي".
ورغم أن هدف الدراسة كان يدور حول وضع الآليات والسياسات والمتطلبات للتحول إلى الدعم النقدي للخبز وباقي السلع التموينية، والتي كانت تشمل الأرز والسكر والزيت والعدس والمسلى النباتي والفول والمكرونة والشاي، قبل قصرها على المواد الثلاث الأولى وإلغاء البقية، لكن الدراسة خلصت إلى أن للدعم العيني فوائد اجتماعية لا يجب إغفالها.
وهي أنه يضمن توفير الخبز والسلع الأساسية بأسعار منخفضة للفقراء، ويساهم في تحسين مستوى التغذية للأسر الفقيرة وأطفالها. وأوصت الدراسة بالتحول للدعم النقدي نظرا للجدوى الاقتصادية، حيث يوفر نصف تكلفة الدعم العيني، ويمكّن من توسيع مظلة البطاقات التموينية لتشمل المواليد الجدد ومزيداً من الأسر حديثة الزواج.
الطريف أنه رغم التوصية بالتحول للدعم النقدي، حذرت الدراسة في نهايتها من تفعيل توصيتها، وقالت إن الدعم النقدي سوف يضاعف سعر رغيف الخبز أربعة أضعاف، وسيصل السعر إلى 20 قرشاً، ما يجعل القرار محفوفا بتداعيات اجتماعية وأمنية خطيرة، ينبغي تقديرها بدقة تحاشيا لقلاقل قد تؤثر على الاستقرار السياسي في البلاد. وتراجع النظام عن التحول للدعم النقدي.
مزايا الدعم النقدي
أولًا: وصول الدعم إلى مستحقيه من محدودي ومعدومي الدخل ومنع تسريبه للقادرين. وهي العلة التي تتذرع بها الحكومة لتحويل الدعم العيني أو السلعي إلى نقدي، أو من دعم السلعة إلى دعم المواطن. وهو بالفعل ميزة لا تتوفر في الدعم العيني، حيث تجد السلعة المدعومة طريقها للقادرين الذين يتمسكون بالبطاقة التموينية، بينما كثير من الأسر الفقيرة وحديثي الزواج محرومون وأطفالهم من الحصول على بطاقات تموينية منذ عام 1989.
ثانيًا: انخفاض تكلفة توصيل الدعم النقدي إلى المستحقين من خلال التحويلات البنكية المباشرة في حساب البطاقة الذكية للمواطن، وبالتالي، يمكن زيادة الدعم النقدي للمواطن بنفس قيمة تكلفة توصيل الدعم العيني. ويمكن إلغاء وزارة التموين تماما، والاكتفاء بلجنة في الحكومة لمراجعة قيمة ومستحقي الدعم النقدي، كما هو في كثير من الدول.
ثالثًا: سهولة تقدير قيمة الدعم النقدي برقم ثابت في الموازنة العامة للدولة. أما الدعم العيني، فيصعب التنبؤ بقيمته حتى نهاية السنة المالية. حيث تتغير قيمته بتغير أسعار القمح، مادة صناعة الخبز، من وقت لآخر، في السوق الدولية، والتي تنعكس مباشرة على تكلفة الخبز. ومن المعروف أن مصر تستورد 60% من احتياجاتها من القمح، وهي المستورد الأول في العالم.
عيوب الدعم النقدي
أولًا: ارتفاع الأسعار لدرجة تفوق قدرة الفقراء على شراء السلع. خاصة في الدول غير المنتجة أو الدول المستوردة للغذاء مثل مصر، حيث تستورد 60% من الغذاء بقيمة 15 مليار دولار سنويا.
وفي دراسة مركز معلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء في سنة 2005 بعنوان: "بدائل تطوير نظام الدعم الغذائي في مصر"، كشفت عن تقرير للبنك الدولي رصد الآثار الاقتصادية المتوقعة نتيجة تطبيق الدعم العيني. وكان أهم هذه الآثار ارتفاع الأسعار وزيادة التضخم.
وضربت الدراسة عدة أمثلة. في سريلانكا، بدأ تخفيض الدعم العيني في سنة 1976، وانتهى تماما في سنة 1982. في هذه السنوات، زادت أسعار السلع الغذائية بنسبة 100%، وأسعار الخبز بنسبة 170%. وفي الأردن، بدأ التحول عن الدعم العيني في سنة 1990، وانتهى تماما في سنة 1996.
في هذه السنوات، زادت أسعار الخبز من 0.085 دينار للكيلوغرام، إلى 0.22 دينار، أي بنحو 159%.
ونتيجة ارتفاع الأسعار، قامت الحكومة في سريلانكا بزيادة رواتب العاملين في القطاع العام. وفي القطاع الخاص، زادت الرواتب بطريقة غير مباشرة بتخفيض الرسوم على الصادرات والواردات.
وزادت الاستثمار في القطاع الزراعي لتعزيز إنتاج الغذاء محليا. وفي الأردن، قررت الحكومة زيادة التحويلات المالية للفئات المتضررة وأصحاب الرواتب المنخفضة.
وبعد 2013، زادت أسعار السلع التموينية عند التحول من الدعم العيني إلى النقدي العيني المختلط. حيث زادت أسعار الأرز من 1.5 جنيه كيلوغرام إلى 9 جنيهات، وأسعار السكر من 1.25 جنيه للكيلو إلى 10.5 جنيهات. وأسعار الزيت من 3 جنيهات إلى 18 جنيها لليتر ثم 25 جنيها.
ثانيًا: تآكل قيمة الدعم النقدي في ظل زيادة أسعار السلع الغذائية عالميا والتراجع المستمر للقدرة الشرائية للجنيه. ومع الاعتماد على الخارج في استيراد القمح بالدولار، يتوقع أن يؤدي تطبيق الدعم النقدي إلى زيادة أسعار الخبز إلى مستويات تاريخية، ويعجز الدعم النقدي عن شراء الكمية الضرورية من الخبز، ويضطرب استقرار الأسر التي لا تجد سواه لسد الرمق.
وعندما تزيد أسعار السلع، لا يصار إلى زيادة قيمة الدعم. في بداية سنة 2022، رفعت وزارة التموين سعر السكر إلى 10.5 جنيهات للكيلو، بنسبة 23.5%، وزادت سعر الزيت من 17.5 جنيهاً لليتر إلى 25 جنيهاً، بنسبة 42%.
وبالتالي أصبح الفرد يحصل على زجاجة زيت سعة ليتر واحد بـ25 جنيها بالإضافة إلى كيلوغرامين من السكر بإجمالي 21 جنيها، وبالتالي، فالمتبقي من الدعم الفعلي من البطاقة لن يزيد عن 4 جنيهات لا يستطيع المواطن شراء أي سلع إضافية، فيضطر لشراء الخل والملح أو البسكويت.
في نظام الدعم العيني الذي كان مطبقاً قبل انقلاب 2013، يحصل الفرد على كيلوغرامين من السكر وكيلوغرامين من الأرز وكيلو ونصف من الزيت، ما يكشف إلى أي درجة تآكل الدعم بعد تحويله من العيني إلى العيني النقدي المختلط، أو المشروط كما تطلق عليه الحكومة.
ثالثًا: تفريغ الدعم من مضمونه. فبينما تشترط الدول التي تقدم الدعم النقدي انتظام الأطفال في التعليم بهدف علاج الفقر، من خلال الاستثمار في رأس المال البشري وتخريج شباب متعلمين قادرين على الكسب والإنتاج، فإن الدعم النقدي "المشروط"، الذي تطبقه حكومة الجنرال السيسي في مصر، لا يستهدف الاستثمار في رأس المال البشري، وإنما يشترط شراء سلع هامشية تقوم بإنتاجها شركة سايلو فودز التابعة للقوات المسلحة، والتي افتتحها الجنرال في شهر أغسطس/آب سنة 2021.
حيث يضطر المواطن إلى شراء السلع التي تفرضها وزارة التموين، مثل البسكويت والخل والملح وصابون التواليت وصابون الأطباق ومرق الدجاج والصلصة وحلوى الطحينية ومسحوق الغسالات، وهي سلع هامشية ولا تهم الأسر الفقيرة ولا تسد جوع أطفالهم.
وأضافت وزارة التموين المكرونة التي تنتجها الشركة إلى قائمة السلع التموينية على حساب الأرز الذي رفع من قائمة السلع. ومن المعروف أن المكرونة تنتج من القمح المستورد، فيما الأرز ينتج محليا، ما يعني أن الوزارة تشجع المستورد لزيادة أرباح الشركة المملوكة للجيش على حساب المنتج المحلي.
الخلاصة أن الدعم العيني للخبز البلدي في مصر يظل حتى الآن، رغم ما يشوبه من قصور، هو الوسيلة الفعالة لتحقيق جزء من العدالة الاجتماعية الغائبة، والتخفيف من آثار البطالة، وتوفير جزء من الاستقرار الأسري والأمان الاجتماعي الذي تضرر بشكل كبير بعد تعويم الجنيه في سنة 2016.