يوم بعد يوم تتعثر المفاوضات المتعلقة بإعادة إحياء اتفاق الحبوب في ظل موقف روسي متشدد، وإقدام موسكو على تدمير البنية التحتية لصادرات الحبوب الأوكرانية، ومحاصرة موانئ التصدير الرئيسية، ورفض الغرب الاستجابة حتى الآن لشروط موسكو للعودة إلى اتفاق الحبوب الذي انسحبت منه يوم 17 يوليو/تموز الماضي، ومنها شروط تتعلق بتخفيف العقوبات.
حتى محاولات تصدير القمح الأوكراني عبر موانئ بديلة، منها الموانئ الكرواتية، لا تزال متعثرة ومكلفة. وقالت روسيا، الجمعة، إن بنك "جيه بي مورغان" الأميركي توقف عن عمليات الوساطة في مدفوعات الصادرات الزراعية لصالح البنك الزراعي الروسي، وهي الخطوة التي كانت موسكو تراهن عليها في إعادة قطاعها المصرفي إلى شبكة "سويفت" الدولية.
ويعد الوصول إلى "سويفت" أحد المطالب الرئيسية لروسيا في المفاوضات حول مستقبل اتفاقية تصدير الحبوب في البحر الأسود، والتي تقول الأمم المتحدة إنها تساعد في معالجة أزمة الغذاء العالمية التي تفاقمت بسبب حرب أوكرانيا.
حتى محاولات تصدير القمح الأوكراني عبر موانئ بديلة، منها الموانئ الكرواتية، لا تزال متعثرة ومكلفة
ومع التعثر في المفاوضات الجارية، تتزايد المخاوف من اندلاع أزمة غذاء عالمية، خاصة مع التراجع في إنتاج الحبوب عالميا بسبب التصحر والظروف المناخية السيئة، وفرض دول قيود على صادرات الأغذية، وتراجع المخزون العالمي.
ورغم هذا التعثر، لا تزال الاتصالات مستمرة بين الأطراف المعنية، آخرها ما جرى يوم السبت بين وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ونظيره التركي هاكان فيدان، حيث بحثا في مكالمة هاتفية مبادرة تصدير الحبوب، وقبلها اتصال بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان نهاية الأسبوع، وتأكيد الأخير أن وقف اتفاقية الحبوب ليس في مصلحة أحد.
ومع التعثر الواضح في حلحلة الأزمة، واصلت أسعار القمح والمواد الغذائية الأخرى زيادتها، حيث ارتفع مؤشر الأسعار العالمية لمنظمة الأغذية والزراعة (فاو) التابعة للأمم المتحدة في يوليو الماضي من أدنى مستوياته في عامين متأثرا بقرار رفض روسيا تمديد اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود والمخاوف بشأن الإنتاج العالمي.
وقالت المنظمة، الجمعة، إن مؤشر أسعار الغذاء العالمي ارتفع بنسبة 1.3% في يوليو/ تموز مقارنة بالشهر السابق، ليسجل الزيادة الأولى منذ أشهر والثانية خلال عام من الانخفاضات المستمرة منذ إبرام اتفاقية تصدير الحبوب عبر البحر الأسود.
وقفزت أسعار القمح في بورصة شيكاغو بالولايات المتحدة بنسبة 4% يوم 2 أغسطس/آب الجاري، بعد قصف روسيا ميناء إسماعيل الواقع في منطقة أوديسا الأوكرانية على الجانب الآخر من نهر مع رومانيا، والذي يعد بمثابة الطريق الرئيسي البديل لصادرات الحبوب من أوكرانيا، وذلك بعد أسبوع من ارتفاع الأسعار بنسبة 12% إثر انسحاب موسكو من اتفاق حبوب البحر الأسود، محققا أكبر ارتفاع يومي في سوق القمح منذ الأيام التي تلت الحرب في فبراير/شباط 2022.
ما يكشف بوضوح أن بوتين يحاول استخدام القمح، الروسي والأوكراني، سلاحاً لتنفيذ أهداف استراتيجية في الحرب التي يخوضها ضد الغرب في أوكرانيا وفق مراقبين.
حذر صندوق النقد الدولي من أن انسحاب روسيا من اتفاق تصدير الحبوب قد يرفع أسعار الحبوب نحو 15%
ونهاية يوليو، حذر صندوق النقد الدولي من أن انسحاب روسيا من اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود قد يرفع أسعار الحبوب نحو 15%.
وستكون لهذه السياسة تداعيات عالمية على سوق الغذاء الدولية. ذلك أن أوكرانيا، التي تعد إحدى أهم سلال الغذاء في العالم، كانت تصدّر كميات كبيرة من القمح والذرة وبذور دوار الشمس، وصلت قبل الغزو إلى نحو 60 مليون طن، ثم انخفضت في ظل الاتفاقية إلى 33 مليون طن تقريبا، منها 9 ملايين طن من القمح، وفق إحصائيات الأمم المتحدة.
أما روسيا، فبلغت صادراتها العام الماضي 60 مليون طن من الحبوب، منها 48 مليونا من القمح، ومن المتوقع أن تصل إلى 55 مليون طن هذا العام، ما سيدعم بوتين في سياسته الرامية إلى تسليح القمح.
ومن أجل حصار صادرات الحبوب من أوكرانيا، أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن ضربة واسعة بأسلحة جوية وبحرية عالية الدقة في اليوم التالي من الانسحاب من اتفاقية الحبوب على مواقع للقوات الأوكرانية في ميناء أوديسا، أحد أكبر ثلاثة موانئ أوكرانية مخصصة لتصدير الحبوب على البحر الأسود جنوب غربي أوكرانيا، وقالت كييف إن الضربة الروسية المتعمدة دمرت صوامع فيها 60 ألف طن من الحبوب معدة للتصدير.
ثم قصفت القوات الروسية في الأسبوع التالي ميناء ريني، أكبر الموانئ النهرية لتصدير الحبوب في أوكرانيا على نهر الدانوب على الحدود مع رومانيا، وأصابت صومعة الحبوب فيه، وبذلك دمرت الغارات الجوية ما يقدر بنحو 180 ألف طن من الحبوب المعدة للتصدير على مدار تسعة أيام.
بوتين كشف بوضوح عن أهدافه التكتيكية من حرب القمح، التي أسس لها قبل عقدين وفعلها بالانسحاب من اتفاقية الحبوب، حيث اشترط إعفاء صادرات الحبوب والأسمدة الروسية إلى الأسواق العالمية من العقوبات الغربية، واستئناف توريد المكونات وقطع الغيار للمعدات الزراعية، وحل كافة القضايا المتعلقة بتأمين السفن والصادرات الروسية، واستئناف كافة العمليات اللوجستية، وضمان توريد الأسمدة من روسيا من دون أي عائق، وتنفيذ تلك الشروط بلا وعود أو أفكار، في مقابل "العودة الفورية" إلى الاتفاق.
بوتين كشف بوضوح عن أهدافه التكتيكية من حرب القمح، التي أسس لها قبل عقدين وفعلها بالانسحاب من اتفاقية الحبوب
الجفاف في دول الإنتاج سيساعد بوتين في تفعيل سلاح القمح. وقد أظهر تحليل أجرته "رويترز" مؤخرا أن الجفاف سيخفض مخزونات القمح العالمية إلى أدنى مستوياتها منذ أكثر من عقد. وركز التقرير على أن الانخفاض يأتي مع تصعيد روسيا، أكبر مورد للقمح في العالم، صراعها مع أوكرانيا، ويخلق المزيد من عدم اليقين للدول المستوردة.
وكشف التقرير عن أن المزارع في مناطق أميركا الشمالية والجنوبية وأوروبا وأستراليا تحقق خسائر كبيرة في المحاصيل في ظل الطقس الحار الممتد على مساحة جغرافية واسعة وبشكل غير عادي، ما يجعل إنتاج الغذاء عرضة للخطر بشكل متزايد، في ظل الصراع القائم بين الغرب وروسيا.
تقديرات الولايات المتحدة لمخزونات القمح واستخدام المحاصيل لسبعة مصدرين رئيسيين حول العالم هذا العام يكشف بوضوح عن أن مستويات المخزون ستتراجع إلى أدنى مستوى لها في 16 عامًا.
ويُظهر التحليل انخفاض معدلات الإنتاج إلى أدنى مستوياتها منذ 1960 على الأقل، ما يعكس نقص الإمدادات في أستراليا وكندا والأرجنتين، مع توقع زيادة الصادرات في روسيا بسبب المحاصيل الوفيرة والتغلب على فترات الجفاف في مناطق سيبيريا.
ويتوقع أن تكون سوق القمح العالمية هذا العام ساخنة جدًا وأن ترتفع الأسعار بسرعة كبيرة بسبب الجفاف والصراع في البحر الأسود مع وفرة الصادرات الروسية، بدليل ارتفاع أسعار القمح في اليوم التالي لتعليق اتفاق الحبوب والذي حقق أكبر ارتفاع يومي في الأسعار منذ بداية الحرب.
وطبقا لتقديرات من تجار حبوب، فمن المتوقع أن تتعرض الدول المستوردة للقمح ذات الاحتياطيات المحدودة لصدمات الأسعار ونقص المعروض. وقال تجار إن المشترين في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا كانوا يشترون فقط ما يكفي لتغطية احتياجاتهم قصيرة الأجل خلال العام الماضي، معتمدين على توقعات الحصاد الوفيرة في روسيا. وتحقق مصر، أكبر مستورد للقمح في العالم، والجزائر، رابع أكبر مستورد، إنتاجا غير مبشر هذا العام.
مجلس الحبوب الدولي يتوقع هو الآخر أن تتجاوز المخاطر المحيطة بالإمدادات في البحر الأسود إلى ما وراء أوكرانيا
مجلس الحبوب الدولي يتوقع هو الآخر أن تتجاوز المخاطر المحيطة بالإمدادات في البحر الأسود إلى ما وراء أوكرانيا لتشمل الصادرات الروسية التي تزيد عن 60 مليون طن، ما يهدد الصادرات الروسية والأوكرانية التي تمثل ثلث التجارة العالمية. وقال المجلس إن الحصاد الأقل من المتوقع في بداية الموسم في الأرجنتين، والمخاوف الحالية بشأن تراجع المحاصيل في أجزاء من أوروبا، وكذلك مشكلات الطقس في الولايات المتحدة وكندا، لا تساعد في تلبية المطلوب من الإمدادات.
وتظهر بيانات من وزارة الزراعة الأميركية أن مخزونات القمح في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا والأرجنتين والاتحاد الأوروبي، أكبر مصدري القمح في العالم، بخلاف روسيا، قد تنخفض إلى أقل مستوى لها منذ عقود في عام المحاصيل 2023/ 2024 بسبب أقصى درجات حرارة، حيث يرجح أن شهر يوليو كان الأكثر سخونة في العالم.
وأدى الجفاف في شمال الولايات المتحدة وكندا إلى الحد من إمكانية حصاد القمح الربيعي الغني بالبروتين والقمح الصلب، ما أضر بالقمح المستخدم في صناعة الخبز والمعجنات والمعكرونة. ويحذّر خبراء من أن المزارع قد تتعرض لمزيد من الضرر قبيل الحصاد الذي سيبدأ حاليا.
ظروف الجفاف في كندا تشبه ظروف الموسم قبل الماضي 2021-2022، عندما انخفض الإنتاج بنحو 37% عن العام السابق. وفي الولايات المتحدة، من المتوقع انخفاض الإنتاج بنسبة 5% في محصول القمح الربيعي عن العام الماضي، بعد أن دفع الجفاف مزارعي كنساس إلى التخلي تماما عن حقول القمح الشتوية.
في داكوتا الشمالية، قال مزارع كبير هناك إن قمحه سوف ينخفض بنسبة 20% إلى 30% عن إنتاج العام الماضي، وعبر عن إحباطه من التوقعات بزيادة المحصول الروسي الوفير الذي سيحل محل تراجع الإنتاج في أماكن أخرى من العالم.
تقدر الولايات المتحدة أن ترتفع صادرات القمح الروسية بنسبة 44% عن العامين الماضيين، لتصل إلى 48 مليون طن
وتقدر الولايات المتحدة أن ترتفع صادرات القمح الروسية بنسبة 44% عن العامين الماضيين، لتصل إلى 48 مليون طن. الحكومة الروسية تتوقع أن تصل الصادرات إلى 55 مليونا. ويتوقع تاجر في شركة متعددة الجنسيات في أوروبا أن تخفض موسكو الصادرات بحجة القلق بشأن ارتفاع أسعار الخبز المحلي.
من الأخبار التي تصب في مصلحة بوتين أيضا، أن وزارة الزراعة في أستراليا، وهي عادة ثاني أكبر مصدر للقمح في العالم، تقول إن الإنتاج سينخفض بنسبة هائلة هذا العام قد تصل إلى 34% أقل من متوسط 10 سنوات. وتزود أستراليا المشترين في آسيا، بما في ذلك الصين، التي حصلت على 25% من واردات الحبوب الأوكرانية العام الماضي، ولها أولوية سياسية في العلاقات مع روسيا، ما يجعلها منافسا على القمح الروسي ويساعد بوتين في إحكام قبضته على السوق الدولية.
الصين، أكبر منتج ومستهلك في العالم، شهدت أول انخفاض في إنتاج القمح الصيفي منذ 7 سنوات بعد هطول أمطار غزيرة. وتمتلك البلاد احتياطيات من الحبوب، على الرغم من أن المحللين قالوا إن انخفاض الإنتاج وضعف وفرة المحاصيل قد يزيدان الواردات من أستراليا وروسيا.
التوقعات سلبية أيضا في الاتحاد الأوروبي وفرنسا، أكبر مصدر للقمح في القارة، وفي الغالب ستقل عن الإنتاج العام الماضي، وكثير من الدول الأوروبية تضع عينها على القمح من أوكرانيا وروسيا، وتضغط من خلال الأمم المتحدة لتجديد اتفاق الحبوب.
وفي تطور آخر، حظرت روسيا صادرات الأرز حتى نهاية العام بحجة الحفاظ على الأسعار في السوق الروسية. وكذلك أدى الحظر الهندي على الأرز الأبيض غير البسمتي إلى تفاقم المخاوف بشأن احتمال تقلص إمدادات القمح العالمية لأن كلا المحصولين يستخدمان في الغذاء.
الهند هي أكبر مصدر للأرز في العالم وتمثل أكثر من 40% من الصادرات، ويتجه معظمه للسوق العربية والخليجية. وفي ظل عدم توفر الأرز، يتجه الناس إلى القمح، وعندئذ تكون المشكلة أسوأ مما كانت عليه عندما غزت روسيا أوكرانيا في البداية، وفق رأي أحد تجار الحبوب الدوليين.
يدرك بوتين أهمية العودة إلى اتفاق الحبوب بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا وأفريقيا وآسيا والذين يعتمدون على الحبوب الرخيصة من روسيا وأوكرانيا، لذا يستخدم القمح سلاحاً.
يدرك بوتين أهمية العودة إلى اتفاق الحبوب بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا وأفريقيا وآسيا والذين يعتمدون على الحبوب الرخيصة
الأسباب الثلاثة، الجفاف في دول إنتاج القمح ووفرة الإنتاج في روسيا وحصار الحبوب في أوكرانيا، تمكن بوتين من استخدام القمح سلاحاً، وتحقيق شروطه.
والولايات المتحدة والحلفاء لن يتحملوا الفوضى التي وقعت في الأسواق العالمية للحبوب العام الماضي بعد الغزو مباشرة، والارتفاع الحاد وغير المسبوق في أسعار القمح والخبز والمواد الغذائية الأخرى وما نتج عنها من احتجاجات شعبية في تلك الدول، حيث وصلت أسعار القمح إلى 522 دولارا للطن، والذرة إلى 350 دولارا للطن.