تداعيات سياسة خنق الاستيراد في الجزائر

01 يناير 2025
بنك الجزائر المركزي (تويتر)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- حدد بنك الجزائر سقفًا للمبالغ النقدية الأجنبية للمسافرين بـ 7500 يورو سنويًا، مع إلزامية وثيقة السحب للمبالغ فوق 1000 يورو، بهدف مكافحة تهريب الأموال والسوق السوداء وتضييق الخناق على الاستيراد.
- أغلقت الجزائر 30 ألف شركة استيراد لتقليص الواردات، مما أدى إلى نقص السلع وارتفاع الأسعار، واستغلال التجار والمصنعين المحليين للوضع، وانتشار ورشات تقليد الماركات العالمية.
- يعاني الاقتصاد الجزائري من تبعية للمحروقات، مع انخفاض الصادرات غير النفطية، مما يتطلب تحسين المناخ الاستثماري وتشجيع الصناعات المحلية، في ظل ارتفاع الأسعار وتفضيل المواطنين للهجرة.

قام بنك الجزائر "البنك المركزي" أخيراً بتسقيف المبلغ المالي الإجمالي بالنقد الأجنبي المسموح للمسافرين المقيمين وغير المقيمين بإخراجه من البلاد، وحدَّده بـ 7500 يورو (حوالي 7956 دولاراً) مرّة واحدة في السنة عوضاً عن كل رحلة مع إلزامية إظهار وثيقة السحب من البنك بالنسبة للمبالغ التي تتعدّى 1000 يورو (حوالي 1060 دولاراً).

يتمثَّل الهدف المُعلن من هذا القرار في التصدّي لتهريب الأموال إلى الخارج ومحاربة السوق السوداء للعملات الأجنبية التي شهد فيها الدينار الجزائري تدهوراً غير مسبوق في الآونة الأخيرة، بينما يكمن الهدف المبطن في تضييق الخناق على الاستيراد وغلق آخر منفذٍ لطالما كان بمثابة متنفّس للعديد من التجّار لا سيَّما في ما يتعلَّق بالملابس ومواد التجميل والهواتف النقّالة.

حتّى وإن نجح التجّار، سواء أولئك الذين يمتلكون سجلّات تجارية، أو أولئك الذين يتَّخذون من تجارة الشنطة (المعروفة محلياً بتجارة الكابة) مصدر رزقٍ لهم، في جلب السلع المذكورة آنفاً من الخارج باستخدام بطاقات الدفع الإلكترونية التابعة لبنوك أجنبية خارج الجزائر مثل Myfin ،Wise ،Pyypl ،Redotpay، وDukascopy، سيصطدمون بعد ذلك بالرقابة الشديدة في الموانئ والمطارات التي تقف بالمرصاد لأمتعة المسافرين القادمة التي تحوي كميات متوسّطة أو كبيرة من تلك السلع المفقودة في السوق الجزائري والتي يكثر الطلب عليها من قبل مُحبِّي الجودة المفقودة أيضاً بدورها في المنتجات المحلية.

في الواقع، سبق ذلك القرار إرسال تعليمات للبنوك الجزائرية تفيد بضرورة وقف التوطين البنكي لعمليات التجارة الخارجية مع فرنسا ابتداءً من الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بسبب دعم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لخطّة الحكم الذاتي المغربية في الصحراء الغربية التي ترفضها الجزائر بشكل قاطع، مقابل رفع التجميد عن عمليات التوطين البنكي مع إسبانيا، بعد أكثر من عامين من القيود التجارية الصارمة التي فرضتها السلطات الجزائرية على التعاملات المالية والتجارية مع كلّ ما يمتّ بصلة مباشرة أو غير مباشرة بإسبانيا نظراً لموقفها بشأن قضية الصحراء الغربية، الأمر الذي يدلّ بشكل لا لُبس فيه على إقحام السياسة أيضاً في ملفّ الاستيراد الذي تتعدَّد الأسباب وتتنوَّع الاجتهادات لغلقه نهائياً وترك المواطن أمام جبروت التجّار والمصنِّعين المحلِّيين وحتمية استهلاك المنتجات المحلِّية.

في أواخر يناير/ كانون الثاني من العام الماضي، تمَّ إغلاق 30 ألف شركة استيراد في الجزائر نتيجة تقليص عدد مستوردي البضائع المُوجَّهة مباشرة للأسواق الجزائرية من 43 ألفاً إلى 13 ألفاً فقط، إلى جانب فرض شروط جديدة على رُخص الاستيراد ونشر قوائم جديدة للسلع الممنوعة من الاستيراد بهدف ضبط الواردات وتقليص فاتورة الاستيراد والحفاظ على احتياطي النقد الأجنبي للبلاد وإخلاء الساحة للمنتجين المحلِّيين العاجزين لحدّ الساعة عن تقديم منتجات ذات جودة وأسعار تنافسية.

أدَّت الجهود المتواصلة لخنق الاستيراد إلى قلّة المعروض من السلع ذات الجودة وقمع المنافسة وارتفاع الأسعار بشكل عشوائي لا يمُتّ للمنطق ولا للأعراف والقواعد الاقتصادية بصلة، الأمر الذي مكَّن بدوره التُجّار والمصنِّعين المحلِّيين الجشعين من استغلال الأوضاع الراهنة لتحقيق أرباح ومراكمة رؤوس أموال داخلياً.

لم يقف الأمر عند هذا الحدّ فحسب، بل انتشرت آلاف الورشات السرِّية في الأحياء الفوضوية والمهمَّشة والمعزولة لتقليد ملابس أشهر الماركات العالمية وبيعها على أنّها حقيقية مستوردة وتحقيق أرباح خيالية من خلال استهداف الزبائن الجزائريين الذين يبحثون عن الماركة العالمية والسعر المناسب وينفرون من المنتجات المحلية بأسعار مرتفعة.

يُميط هذا الوضع المزري اللثام عن مآلات التضييق الخطير الذي تمارسه السلطات على الاستيراد. ففي الوقت الذي تتمّ فيه محاصرة المستوردين بشتَّى الطرق، تنجح السوق السوداء في خلق حلول للتحايل على كل ما هو رسمي وينجح إلى جانبها التجّار والمصنِّعون المحلّيون الذين لا يرضون بهوامش أرباح معقولة في مراكمة الثروات على حساب المواطنين المسيَّرين غير المخيَّرين.

بحسب التقرير السنوي لبنك الجزائر لسنة 2023، انخفض الفائض في الميزان التجاري من 26.96 مليار دولار في سنة 2022 إلى 12.71 مليار دولار في سنة 2023، ويرجع ذلك أساساً إلى انخفاض أسعار المحروقات في السوق الدولية، وزيادة واردات السلع الاستهلاكية غير الغذائية وتحديداً السيارات السياحية والمنتجات الصيدلانية.

من هنا يتَّضح أنّ المشكلة تكمن في عدم نجاح مساعي إخراج الاقتصاد الجزائري من دائرة التبعية للمحروقات من نفط وغاز، فقد انخفضت قيمة الصادرات خارج المحروقات من 5.98 مليارات دولار في سنة 2022 إلى 5.06 مليارات دولار في سنة 2023 التي لا تزال بدورها بعيدة عن القيمة المستهدفة والمفرطة الطموح التي تمَّ التخطيط لبلوغها والمُقدَّرة بـ 13 مليار دولار، وهذا علاوة على فشل صناعة السيارات واستمرار اعتماد الإنتاج الصيدلاني المحلِّي على المدخلات المستوردة.

جذور المشكلة الحقيقية أعمق بكثير وتتطلَّب حلولاً جذرية لا تتعلَّق بتضييق الخناق على الاستيراد والقوانين الارتجالية كتسقيف مبلغ العملة الصعبة المسموح للمسافرين بإخراجها من البلاد بقدر ما تتعلَّق بتوفير المناخ الاستثماري الملائم، ووضع اللبنة الأساسية لتشجيع الصناعات المحلِّية وجذب المستثمرين الأجانب وإفساح المجال للمنافسة وتشجيع السياحة.

نحن نقف أمام حالة ترتفع فيها الأسعار أضعاف ارتفاع الدخل، الأمر الذي يحبس القدرة الشرائية لا سيَّما للمواطنين البسطاء في الحضيض، وتزداد هذه الحالة سوءاً عاماً بعد عام بفعل غلق الباب أمام الاستيراد وإقصاء المنافسة واستبعاد فكرة فتح مكاتب الصرف المرخَّصة وتجميد المشاريع الحكومية التي تخلق مناصب شغل.

في هذه الحالة تحديداً وعلى عكس توقُّعات الحكومة بإنعاش الإنتاج المحلِّي، تعزف شريحة واسعة من المواطنين عن الاستهلاك وتفضِّل طواعية إنفاق ما لا يتعدّى 2.15 دولار للفرد يومياً (المعروف بخطّ الفقر العالمي الجديد)، وتتوقَّف عجلة الاقتصاد عن الدوران وتظهر فئة جديدة من المنتفعين وأغنياء الاحتكار والمضاربة وتزدهر إلى جانبها فئة مبيِّضي الأموال الذين يُغرقون الأسواق بسلع لا تتجاوز أسعارها السعر الذي يبيع به المصنع سلعه إلى تجّار الجملة.

خلاصة القول، حالة الإغلاق هذه لن تزيد المواطنين، سواء البطّالون أو الكوادر ذات المؤهِّلات العليا والخبرات العالية، إلّا إصراراً على الهجرة إلى الضفّة الأخرى من البحر الأبيض المتوسِّط أو أميركا الشمالية أو دول الخليج أين يصبح بمقدورهم حيازة مدَّخرات مهمّة من العملة الصعبة وامتلاك سيارات حديثة بأسعار يتقبَّلها العقل والمنطق ودفن كابوس ندرة قطع الغيار والتمتُّع بثنائي الجودة والسعر المناسب.

المساهمون