رغم إحباط المصريين بسبب الأداء الاقتصادي الفاشل خلال السنوات السبع الماضية، وتردّي الأوضاع المعيشية، وغلاء أسعار الكهرباء والغاز والمواصلات، وحذف ملايين الأسر من مظلة دعم السلع التموينية، بالتزامن مع زيادة أعداد العاطلين عن العمل جراء جائحة كورونا، لكنّ قانون التصالح الذي اخترعه الجنرال السيسي ليبرر هدم المنازل على رؤوس أصحابها، ومطالبة المواطنين بدفع غرامات مالية مبالغ فيها مقابل وقف إزالتها، كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير والشرارة التي أشعلت احتجاجات 20 سبتمبر/أيلول واستمرت حتى الآن.
توسّع السيسي في هدم المباني بطريقة وحشية بحجة إقامتها على أراض زراعية، وتهديده بنشر قوات الجيش ومعدات هندسية في كافة القرى لإبادة وهدم المباني المخالفة بانفعال ومن دون تراجع، واستنفاره قائد الجيش، محمد زكي، ووزير الداخلية، لتنفيذ الهدم، وكذلك المحافظين ومديري الأمن وكل المسؤولين الذين قبلوا العمل معه وقالوا "آه"، وفق تعبيره، خلال افتتاحه بعض المشاريع في محافظة الإسكندرية يوم 29 أغسطس/آب الماضي.
الأمر الذي يكشف عن شخصية عدوانية تجاه العمران ولا تبالي بالتنمية الحقيقية والسلام الاجتماعي ولا تحرص على الممتلكات الخاصة واستقرار المجتمع. وبالفعل، اجتاحت القرى جحافل من الجيش والشرطة، مدججين بأسلحة ومعدات هندسية متطورة وحديثة، قال السيسي إنه أعدها سلفا للإبادة والإزالة والهدم. وهي مصطلحات حربية تستخدم عند وصف هجوم عسكري لدولة على دولة أخرى، ولا تطلق على أية عمليات مدنية داخل حدود الوطن.
وأظهر تحفز القوات الجدية في تنفيذ أوامر الجنرال، والجاهزية للتعامل الفوري مع ردود فعل المواطنين المشردين من بيوتهم التي استنفدت كل أموالهم ووضعوا فيها شقى عمرهم.
الانحناء للعاصفة
لقد كشفت السنوات السبع الماضية أن السيسي يجيد المراوغة والتكتيك، ولكن لا يحيد عن أهدافه الاستراتيجية، ولا يتردد في الانحناء أمام العاصفة الشعبية، ولا يتردد في العودة إلى تنفيذ برامجه التقشفية في أقرب فرصة. فعندما اندلعت احتجاجات 7 مارس/آذار 2017 بسبب تخفيض دعم الخبز لغير حاملي البطاقات التموينية، تراجع وزير التموين عن القرار في آخر النهار وقدم الاعتذار وزاد حصة الخبز، وتوقف عن حذف المستفيدين من الدعم، ووعد بإضافة المواليد الجدد لمظلة الدعم التمويني، لامتصاص غضب الجماهير. وبعد العاصفة، عادت ريمة لعادتها القديمة، فحذف بالتدريج 4 ملايين مواطن من دعم الخبز، وتراجع عن إضافة المواليد الجدد إلى مظلة الدعم.
وفي مواجهة المظاهرات التي اندلعت في سبتمبر/أيلول 2019 بعد زلزال الفضائح التي كشفها المقاول والفنان محمد علي واتهامه وزوجته بإهدار مليارات الجنيهات من المال العام في بناء قصور رئاسية بازخة، لم يتردد السيسي في الانحناء للعاصفة مرة أخرى.
فأعلن في تغريدة على موقع تويتر قال فيها "أتفهم" موقف الذين تأثروا سلباً ببعض إجراءات تنقية البطاقات التموينية وحذف بعض المواطنين منها، و"اطمئنوا" لأنني أتابع بنفسي هذه الإجراءات.
وفي اليوم التالي، أعلن وزير التموين إعادة 1.8 مليون مواطن إلى منظومة البطاقات بعد حذفهم منها. وبعد مرور العاصفة، حذف السيسي 10 ملايين من دعم السلع التموينية، وأصدر قانون التصالح في نهاية 2019، وبعد فترة خفض وزن رغيف الخبز إلى 90 غراما بدلا من 130 غراما.
وفي مواجهة احتجاجات 20 سبتمبر/أيلول الأخيرة وما تلاها من مظاهرات يومية، بعد تهديده باستخدام الجيش لإبادة المباني، تراجع أمام ضغط المتظاهرين.
وفي محاولة لامتصاص الغضب قبل تفاقمه، افتعل السيسي مناسبة لافتتاح مشروع لتكرير المنتجات البترولية. وبطريقة مهذبة، وفي غياب مقصود لوزيري الدفاع والداخلية وجوقة اللواءات العسكرية، كشف عن عودة تراخيص البناء المتوقفة بأمر منه لمدة 6 أشهر، وأعلن عن صرف 500 جنيه للعمال المتأثرين من جائحة كورونا، بالإضافة إلى تمديد مهلة التصالح في مخالفات البناء، وتخفيض قيمة الغرامة أكثر من مرة، وإعلان أحد الأحزاب الموالية للسلطة عن تحمّل غرامات آلاف المخالفات.
هدم البيوت في سيناء
بدأ السيسي سياسة هدم مباني المصريين في سيناء. فقام بهدم المباني السكنية وتجريف الأراضي الزراعية وتهجير الأهالي في مدينتي رفح المصرية والشيخ زويد، بحجة هدم الأنفاق وإقامة منطقة عازلة على امتداد الحدود مع قطاع غزة بطول 12 كيلومترا وعرض 5 كيلومترات. رغم أن الأنفاق موجودة منذ عهد المخلوع مبارك، والجميع يعرف أنها لا تهدد الأمن في سيناء.
ورغم أن أطول الأنفاق التي تم كشفها لم يتجاوز طوله 1750 مترا فقط، فقد أصر السيسي على أن يتم هدم وتجريف البيوت لأكثر من ثلاثة أضعاف العمق المطلوب حتى هدم المدينتين بالكامل لأسباب بعيدة عن ملف الأنفاق. وأكدت منظمة العفو الدولية صراحة أن الهدم والتهجير لا يمثلان حلاً للأزمة.
وبعد تدمير رفح والشيخ زويد، قامت قوات الجيش بتجريف البيوت ومئات الأفدنة الزراعية في مدينة العريش، بحجة إنشاء حرم لمطار العريش، كما ادعى السيسي، إلّا أنّ عمليات التجريف تصاعدت بشكل جنوني، فمسحت جرّافات الجيش أراضيَ زراعية وهدمت منازل ومنشآت صناعية بشكل عشوائي في مساحات واسعة من دون هدف واضح. لكن بعد شهور من العملية أعلن مستشار وصهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، جاريد كوشنر، عن صفقة القرن، وطرح خطة تحتوي على 12 مشروعًا تخص سيناء وحدها.
ويدّعي السيسي أنه رصد 10 مليارات جنيه لتنمية سيناء، رغم أن هدم البيوت والتجريف والتهجير لا يخدم التنمية في سيناء بل يقوّضها. ولا يخدم سوى إسرائيل، باعتراف بن غوريون، أول رئيس وزراء لدولة الاحتلال، في كتابه "سنوات التحدي"، حيث يقول "إن هدف إسرائيل ليس البقاء في سيناء، لكن منع المصريين من البقاء فيها".
اتهام ثورة يناير
لا ينكر أحد أن البناء على الأرض الزراعية هو في حد ذاته ضرر وخطر على الرقعة الزراعية والإنتاج الغذائي. لكن محاولة السيسي إلصاق البناء على الأرض الزراعية بثورة يناير سنة 2011، والزعم بأنها تسببت في كشف الدولة المصرية العريقة ظهرها وتعرية كتفها في شهر يناير القارس البرودة، هي خدعة للتغطية على مخطط لهدم أعداد ضخمة من الوحدات السكنية قدّرها هو بنصف الكتلة العمرانية في مصر، ليبرر سياسة الهدم والإبادة، وليجبر الضحايا على شراء الوحدات السكنية التي يقوم على بنائها ضباط الهيئة الهندسية للقوات المسلحة.
حتى إحصائيات رئيس الوزراء، مصطفى مدبولي، فهي تكذب اتهام السيسي ثورة يناير بمسؤوليتها عن الاعتداء على الرقعة الزراعية. فقد أعلن مدبولي عن أن المساحة التي تم البناء عليها منذ سنة 1983 وحتى الآن بلغت 400 ألف فدان، وأن المساحة التي تم البناء عليها منذ ثورة يناير 2011 وحتى الآن بلغت 90 ألف فدان فقط، ما يعني أن معدل البناء على الأرض الزراعية قبل ثورة يناير بلغ أكثر من 103 آلاف فدان كل عشر سنوات، وانخفض بعد الثورة إلى 90 ألفا فقط.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن تعداد المصريين في فترة الثمانينيات والتسعينيات كان نصف التعداد في سنة 2018، وفق إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الحكومي، نكتشف أن معدل البناء على الأرض الزراعية بعد ثورة يناير لم يزد، بل انخفض إلى نصف ما كان عليه الوضع قبلها.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن الجنرال السيسي أهدر في آخر 5 سنوات فقط عشرات الآلاف من الأفدنة الزراعية في الدلتا وخارجها في المشروع القومي للطرق والكباري بطول 7 آلاف كيلومتر، وفي الخدمات الملحقة بها، من محطات بنزين ومولات تجارية، نكتشف مرة أخرى أن مساحة الأراضي التي تم البناء عليها من قبل الفلاحين بعد ثورة يناير لا يزيد عن 20 إلى 30 ألف فدان على أقصى تقدير.
ذلك أن جميع الطرق الجديدة تمت بالأمر المباشر من خلال الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، من أجل التربح من عائد السير على هذه الطرق على حساب الرقعة الزراعية وليس للصالح العام، ما يؤكد أن ثورة يناير، على عكس ما يدّعيه السيسي، بريئة من تهم كثيرة ألصقها بها.
رغم خطورة مظاهرات سبتمبر/أيلول الأخيرة على نظامه، لم يعتذر السيسي عن التهديد بالإبادة، ولم يسقط قانون التصالح المثير للجدل، ولم يعلن عن تعويض الأسر التي هدم بيوتها، ولم يتقدم بمشروع قومي لحل أزمة المساكن في القرى من خلال منح المزارعين أراضي بديلة في الظهير الصحراوي للمحافظات، ووقف احتكار الهيئة الهندسية للقوات المسلحة لبناء المساكن بأسعار باهظة، ما يعني أن السيسي يعود إلى سياسة الانحناء للعاصفة، والتي لا يتردد في تنفيذها من دون خجل، وسوف يعود إلى طبيعته التدميرية في الوقت الذي يناسبه.